ذكرى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين .. الخُروج إلى النّور

نور5 مايو 2023آخر تحديث :
ذكرى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين .. الخُروج إلى النّور

لقد أحدث المشروع الاستعماري الفرنسي جروحًا عميقة في بناء المجتمع الجزائري، حيث عملت فرنسا على إيقاف النمو الحضاري والمجتمعي للجزائر مائة واثنتين وثلاثين سنة، وحاولت طمس معالم الجزائريين الوطنية، وعملت ما في وسعها لتحويل الشعب الجزائري عن هويته الأصلية معتمدة على الجندي والطبيب والمعلم والراهب، فجاء الاحتلال الفرنسي ليفسد على المسلمين دينهم ويفتنهم ويبعدهم عن عقائدهم، ويشككهم في توحيدهم، ويفسد على أبناء المسلمين عقولهم ويلقي الاضطراب في أفكارهم، ويستنزلهم عن لغتهم وآدابهم، ويشوّه لهم تاريخهم، ويقلّل سلفهم في أعينهم، ويزهدهم في دينهم ونبيهم، ويعلمهم – بعد ذلك – تعليماً ناقصاً هو شرٌّ من الجهل.

ولذا بدأ الشيخ ابن باديس في حركته التجديدية الساعية نحو التحرير والاستقلال، وقد استطاع ابن باديس تحويل جهوده الفردية إلى عمل منظم على مستوى القطر الجزائري، جمع فيه علماء البلاد في جمعية علماء المسلمين، والتي ساهمت مساهمة عظيمة في توعية الشعب ورفع الجهل عنه، ودعم الثورة ضد الاحتلال بكل ما تملك من أدوات وأفكار ووسائل، إن أول مسمار دقَّ في نعش الاستعمار وأول لبنة وضعت في جدار الاستقلال بعد عهود المقاومة الشعبية المسلحة كانت بانتصاب الشيخ ابن باديس لتدريس القرآن والسنة وعلومهما بقسنطينة منذ سنة 1913م، وصدق رسول الله (ص) القائل: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه” (رواه الإمام مالك في الموطأ).
والعلماء المسلمون المثقفون هم العالمون بأمور الدين الإسلامي، والواقفون على أسرار معتقداته، فهم لا يسعون إلى إدماج الجزائر بفرنسا، بل يفتشون في القرآن نفسه عن مبادئ استقلالهم السياسي، وقد أسس هؤلاء العلماء في عام 1931م، أي بعد انعقاد المؤتمر الإسلامي في القدس اجتماعاً عظيماً، وشكلوا على إثره جمعية كبيرة انتشرت في قليل من الزمن انتشاراً سريعاً، رأس الشيخ ابن باديس هذه الجمعية، وكانت له اليد الطولى في تأسيسها، وقد تضافرت ظروف عديدة وعوامل كثيرة ساهمت جميعها في إظهار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الوجود نذكر منها:

بعد مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر، احتفل الفرنسيين بذلك، وكان احتفالهم استفزازاً للأمة، وإظهاراً للروح الصليبية الحاقدة التي يضمرونها للإسلام والمسلمين، حيث أقامت فرنسا سنة 1930م مهرجانات بمئوية استعمارها للجزائر وفجرت فيها روح الإصلاح وطاقات المقاومة، ففي تلك الاحتفالات خطب أحد كبار الساسة الاستعماريين الفرنسيين فقال: إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم وأن نقتلع العربية من ألسنتهم. كما خطب أحد كرادلة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، فقال: إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر، وإن عهد الصليب قد بدأ وإنه سيستمر إلى الأبد، وإن علينا أن نجعل أرض الجزائر مهداً لدولة مسيحية مضاءة أرجاؤها بنور مدنية منبع وحيها الإنجيل .
وفي مواجهة هذا الفجور الاستعماري الصليبي، تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931م سالكة طريق المنهاج الإسلامي في الإصلاح والعمل المؤسسي المنظم، وتضاعفت الجهود في تأسيس المدارس وإلقاء الخطب والدروس في تكوين الجيل العربي المسلم والوطني القادر على استعادة الجزائر إلى حضن العروبة والإسلام والاستقلال.

حاجة الشعب لهذه الجمعية:

إن وجود الجمعيات والاتحادات والنوادي المسيحية وغير المسيحية كان معروفاً في ذلك الوقت، مما دفع بالعلماء المسلمين إلى إنشاء جمعية إسلامية تحدياً للجمعيات غير الإسلامية، حتى تنظم التعليم الحر وتقيم الشعائر الإسلامية وبعض الاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى تلك الجمعيات الدينية والثقافية، فقد كانت هناك بعض التنظيمات والأحزاب السياسية الأوروبية في الجزائر قد جذبت بعض الجزائريين للانخراط فيها، ونشأت بعض الأحزاب السياسية الجزائرية لتحقيق بعض المطالب السياسية الاجتماعية.
وكل ذلك ساهم في دفع الشيخ ابن باديس وإخوانه إلى تكوين الجمعية وقفاً للنزيف والتشتت وتقويماً للمطالب والمشروعات الاجتماعية والسياسية.

لقد كان لحركة ابن باديس التربوية التعليمية التي شرع فيها منذ تفرغه للتدريس بقسنطينة سنة 1913م، إثر تخرجه من جامع الزيتونة أثر عظيم في طلابه المتوافدين على رحاب الجامع الأخضر بقسنطينة من كل أرجاء الجزائر.. أثر في العقول والقلوب والسلوك لم تشهده البيئة الجزائرية من قبل، مما جعل الإمام محمد البشير الإبراهيمي نائب ابن باديس في حياته وخليفته من بعده يقرر في مقدمة كتاب سجل مؤتمر جمعية العلماء المنعقد بنادي الترقي في العاصمة في سبتمبر 1935م ؛ أن من العوامل الأساسية في نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر ؛ الثورة التعليمية التي أحدثها الشيخ ابن باديس بدروسه الحية، والتربية الصحيحة التي كان يأخذ بها تلاميذه، والتعاليم الحقة التي كان يبثها في نفوسهم الطاهرة النقية، فما كادت تنقضي مدة حتى كان الفوج الأول من تلاميذ ابن باديس مستكمل الأدوات من أفكار صحيحة، وعقول نيرة، ونفوس طامحة، وعزائم صادقة، وألسن صقيلة، وأقلام كاتبة، تلك الكتائب الأولى من تلاميذ ابن باديس هي طلائع العهد الجديد الزاهر.
ثم زحفت من أولئك التلاميذ في ذلك العهد أيضاً كتيبة جرارة سلاحها الفكرة الحية الصحيحة إلى جامع الزيتونة، لتكمل معلوماتها ولتبني على تلك الفكرة وعلى ذلك الأساس العلمي الصحيح بناء علمياً محكماً، ورجعت تلك الطائفة إلى الجزائر، فكان من مجموعها وممن تخرج بعدها من تلاميذ الأستاذ ومن تلاميذ جامع الزيتونة جنود الإصلاح وقادته وألويته المرفرفة وأسلحته النافذة.
ذكرى التأسيس :

على الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء السابع عشر 17 من شهر ذي الحجة الحرام عام 1349هـ الموافق للخامس من ماي 1931م، اجتمع بنادي الترقّي بعاصمة الجزائر اثنان وسبعون من علماء القطر الجزائري وطلبة العلم فيه إجابة لدعوة خاصة من لجنة تأسيسية متألفة من جماعة من فضلاء العاصمة عميدها السيد عمر اسماعيل أحسن الله جزاء الجميع، وغرض الدعوة هو تحقيق فكرة طالما فكر فيها علماء القطر فرادى وهي تأسيس ((جمعية العلماء المسلمين))، وقد لبّى الدعوة كتابة بالقبول والاعتذار نحو الخمسين عالمًا.

كان اجتماعهم بصفة جمعية عمومية لوضع القانون الأساسي للجمعية، وعيّنوا للرئاسة المؤقّتة الشيخ أبا يعلى الزواوي وللكتابة الأستاذ محمد الأمين العمودي، ووُضِعَ القانون وتلاه كاتب الجلسة على رؤوس الأشهاد فأقرّته الجمعية العمومية بالإجماع وانفضّت الجلسة على الساعة الحادية عشرة، وعلى الساعة الثانية بعد زوال ذلك اليوم أُعيد الاجتماع العمومي لانتخاب الهيئة الإدارية طبقًا لمنطوق مادة من القانون الأساسي، وحيث كان الانتخاب لا يمكن بطريقتيه السرية والعلنية لتوقّفه على الترشيح ولاعتبارات أخرى لاحظتها الجمعية، فقد سلكت الجمعية طريقة الاقتراح فألقي عليها اقتراح باختيار جماعة معيّنة ووقع الإجماع على اختيارها، وهذه أسماؤهم: الأساتذة: عبد الحميد بن باديس، محمد البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، محمد الأمين العمودي، مبارك الميلي، إبراهيم بيوض، المولود الحافظي، مولاي بن الشريف، الطيب المهاجي، السعيد اليجري، حسن الطرابلسي، عبد القادر القاسمي، محمد الفضيل اليراتني. وأعلنت الجمعية لهؤلاء المشايخ أن عملهم الآن مقصور على انتخاب رئيس لهم ونائب. رئيس وكاتب عام ومساعد وأمين مال ومساعد. وأن يعيدوا النظر في القانون الأساسي ويقدّموه للحكومة للتصديق. وأنفضت الجلسة على الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم. وعلى الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم أيضا، اجتمعت الهيئة الإدارية خاصّة ما عدا الأستاذين ابن باديس والطرابلسي الغائبين، فانتخبت للرئاسة الأستاذ عبد الحميد بن باديس، وللنيابة عنه الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي، وللكتابة العامة الأستاذ الأمين العمودي، ولمساعدته الأستاذ الطيب العقبي، ولأمانة المال الأستاذ مبارك الميلي، ولمساعدته الأستاذ إبراهيم بيوض. وبقية الأساتذة المذكورين للعضوية والاستشارة، وانفضت الجلسة على الساعة التاسعة والنصف مساءً، وعلى الساعة الرابعة من مساء يوم الأربعاء الثامن عشر من ذي الحجة الحرام عام 1349هـ الموافق للسادس من ماي سنة 1931م، عقدت الهيئة الإدارية أول جلسة بنادي الترقي برئاسة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي، حضرها جميع الأعضاء ما عدا الأستاذين ابن باديس والطرابلسي، وأعادت النظر في القانون الأساسي فأقرّته بالإجماع وقرّرت ترجمته باللغة الفرنساوية، وتقديمه للحكومة طالبة منها التصديق عليه. وانفضّت الجلسة على الساعة السادسة مساءً. وعلى الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الخميس الموالي عقدت الهيئة الإدارية جلسة برئاسة الأستاذ عبد الحميد بن باديس وعرضت عليه الأعمال السابقة فوافق عليها، وانفضّت الجلسة على الساعة التاسعة صباحًا. وعلى الساعة الثالثة بعد زوال ذلك اليوم أقامت اللجنة التحضيرية حفلة شاي في نادي الترقي دعت إليها جميع الضيوف الذين حضروا وأعضاء الجمعية الدينية وجماعة من النوّاب الأهليين وهيئة إدارة النادي، وأعلن رئيس اللجنة التحضيرية السيد عمر إسماعيل أنه استدعى جناب مدير الأمور الأهلية المستشرق السيد ميرانط فاعتذر عن الحضور. وبعد أن غصّ النادي بالمدعوين من جميع الطبقات ارتجل الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابًا بدأه بشكر اللجنة التحضيرية على ما قامت به من الأعمال وبذلته من الجهود في هذا السبيل، وأثنى على السادة العلماء الذين قاموا بواجب تلبية الدعوة وثنى بشكر رجال النادي الذين فتحوا أبواب ناديهم في وجوه العلماء وقابلوهم بكل تجلة واحترام. ثم عمّم الشكر لجميع أعيان العاصمة على ما أظهروه من الابتهاج والعطف على مشروع العلماء وما تلطّفوا به من تمهيد المثوى وإكرام الوفادة، وأنهم خلّدوا للعاصمة ذكرًا مجيلًما وأعادوا لنا ذكرى تلمسان وبجاية وتاهرت وغيرها من عواصمنا العلمية الزاهرة في التاريخ، ثم أثنى على المستشرق السيد ميرانط بما يستحقه رجل مثله خبر الشؤون الأهلية وكسبته معارفه العربية ذوقا لطيفًا به عرفنا وبه عرفناه. ثم أفاض الأستاذ في الاعتذار لنفسه على عدم حضوره في اليومين الأولين وصرّح أنه قد فاته بفوات ذلك خير عظيم وتأسى بواقعة أبي خيثمة واعتذاره للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وناشد إخوانه العلماء أن تكون لهم أسوة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في قبول عذر أبي خيثمة. ثم تكلّم على الجمعية ومقاصدها فذكر من تاريخها أنها فكرة قديمة دعا إليها الكتّاب في الصحف العربية الجزائرية وتداولها المفكّرون بالبحث في المحافل الخاصة والعامة، وكتب فيها كتّاب “الشهاب” عدة مقالات وبقيت محتاجة إلى رجل أو رجال ذوي إرادة وإقدام يخرجونها من القول إلى الفعل حتى قيض الله لها هؤلاء الفضلاء (أعضاء اللجنة التأسيسية) فكان فضل العمل مدّخرًا لهم كما كان فضل التفكير والقول لكل من فكر في الموضوع وقال. وذكر من مقاصدها جمع شمل هذه الطائفة المتفرقة لتتعاون على ما هي مهيأة له من نصح الأمة وإرشادها لما ينفعها في دينها ودنياها، وان من الثمرات الباكرة لهذا الاجتماع تعارف أبناء هذه الأسرة النبيلة ذلك التعارف الذي طالما نشدناه فما وجدناه- ولقد كان أمنية في النفوس وهوى في الضمائر فأصبح حقيقة واقعة وأمرًا ملموسًا، ولقد كان همًا معتلجًا في القلوب وخواطر مختلجة في الصدور، فأصبح اليوم صوتًا جهيرًا وأذانًا بالحق عاليًا، ولقد كان موكولًا إلى الصدف والحظوظ والاتفاقات فأصبح اليوم ملكاً في أيدينا- وان من مقاصد الجمعية توكيد عرى الإخاء بين أبناء هذه الطائفة، وحملهم على نبذ أسباب الشقاق واطراح دواعي التفرّق بينهم ونسيان كل ما هفت به الأفكار مما يدعو إلى فرقة أو عصبية، وليقدروا أنهم خلقوا خلقًا جديدًا.
ثم وجّه الخطاب إلى العلماء وحضهم على مؤازرة الجمعية وتشهيرها وتحبيبها للعامة ليكون لها من النفع بمقدار ما يكون لها من السلطان على النفوس، وإنما هو سلطان كتاب الله وسنّة رسوله، وأن يكون شعار الجمعية التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وقد أطال الأستاذ في إسداء النصائح النافعة فليبلغ الشاهد الغائب. وختمت الجلسة بما قام به تلاميذ المكاتب القرآنية من تلاوة آيات من الذكر الحكيم وانشاد قصائد ومقاطيع شعرية ومحاورات أدبية بأسلوب روائي، وقد كان لذلك المنظر روعة ووقع وتأثير لا يأتي عليها الوصف.
عن جمعية العلماء المسلمين نائب الرئيس محمد البشير الإبراهيمي

إنَّ جمعية العلماء المسلمين استطاعت إحياء الجزائر، وبعثت فيه عروبته التي كادت أن تغيب، وإسلامه الذي كاد يقضى عليه، ولو أن حركات التحرر السياسي في الجزائر سارت بطريق آخر وعلى منهج بعض الهيئات التي أنشئت في جو التأثر بالثقافة الفرنسية ؛ لكانت الجزائر اليوم قطراً فرنسياً، ولو أنه مستقل استقلالاً ذاتياً، لكنه استقلال يمحو ذاتيتها ويزيل عنها إسلامها وعربيتها. وإن من الوفاء للتاريخ ومن الوفاء لأصحاب الفضل والسابقة أن نضع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في القمة من تاريخ الجزائر الحديث.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل