حقيقة قصة إنشاء تاج محل أسوَد

عمار16 نوفمبر 2020آخر تحديث :
حقيقة قصة إنشاء تاج محل أسوَد

وفقًا للمأثورات الشعبية، فقد قرَّر السلطان شاهجهان المتوفى 1666م بناءَ (تاج محل) آخرَ من الرخام الأسود، على أنْ يُشيَّد في الجانب الآخر من نهر جمنا، ويُربط ما بين التاجيْن بجسر. وقد دوَّن تلك المأثورة الشعبية العديدُ من الرحالة الأوربيين، ومنهم الرحالة والتاجر الفرنسي “تويرنير (Jean-Baptiste Tavernier)” الذي زار الهند في عهد السلطان شاهجهان وأورنگ زيب المتوفى 1707م، ووفقًا لما جاء في مذكراته المعنونة بـ(Les Six Voyage De Jean Baptiste Tavernier) التي نشرها في باريس لأول مرة في عام 1675م: “فإنَّ السلطان شاهجهان بدأ بالفعل ببناء مقبرته الخاصة على الجانب الآخر من نهر جمنا، إلّا أنَّ الحرب على الخلافة بين أبنائه أوقفَت مشروعه، أمّا السلطان أورنگ زيب الذي كان يحكم في الوقت الحالي فلم يكن مهتمًا بالأمر، ولا مستعدًا لإكمال ذلك المشروع”.

وقد نُقلت تلك القصة الشعبية إلى كُتب الأدلة والمعاجم الجغرافية، وإلى الأدلة الإرشادية وغيرها. بيد أنَّ بعض الباحثين والأثريين الهنود أيضًا أعطوا قدرًا من المصداقية لتلك القصة الشعبية في القرنيْن التاسع عشر والعشرين الميلادييْن. وذهبوا في افتراضاتهم إلى وجود آثار قواعد ذلك البناء غير المكتمل على الجانب الآخر من نهر جمنا. وسيرًا على المنهج نفسه، اعتقد عالم الآثار البريطاني أرشيبالد كامبل كارلايل (Archibald Campbell Carlyle) المتوفى 1897م، الذي نشط في أعمال وتنقيبات أثرية في الهند، في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر الميلادي، أنه اكتشف أنقاض بقايا تاج محل الأسود، إلا أن تلك البقايا للأسس وقواعد البناء أثبتت أنها ليست أكثر من بقايا بِركة. وبعد أكثر من قرن من الزمان تعرَّضَت حديقة مهتاب والمنطقة المحيطة بها بالكامل تقريبًا لعوامل التعرية، ومن ثم، فإنَّ أيَّ دليل آخر كان موجودًا في أيّ حقبة ماضية أصبح اكتشافه أكثر صعوبة الآن. ويقال عمومًا إنَّ برج مهتاب والجدار المجاور له مقابل تاج محل، اللذين يقعان على الضفة الأخرى من نهر جمنا، هما أسُس وبقايا لتلك الخطة المقترحة لبناء تاج أسود. وتُدووُلَت تلك القصة الشعبية تداوُلًا عامًا، وقبِلها الناسُ، ويصدّقونها حتى يومنا هذا.

بل وأفرد بعض الباحثين دراسات خاصة عن مسألة وجود تاج محل أسود، ومنهم الباحث افتخار نديم خان عرشي الذي ألَّف كتابًا خاصًا بعنوان: تاج محل أسود: ضريح السلطان المفقود، (Black Taj Mahal: The Emperor’s Missing Tomb) أرَّخ فيه لتاج محل وكيفية تشييده، وأفرد فصلين كاملين للحديث عن قصة تاج الأسود، والكتاب ترجمه أحد الباحثين السعوديين واسمه علي بن محمد الشهري إلى اللغة العربية، بعنوان “التاج محل الأسود: ضريح الإمبراطور المفقود”، ووفقًا لبعض المؤرخين الهنود الذين تناولوا تلك المسألة تناولًا إيجابيًا، لو كان السلطان قصد بالفعل أنْ تكون هذه مقبرته الخاصة، لاحتلَّ ذلك المشروعُ مكان الصدارة بين مشروعاته العمرانية. ونحن نعلم أنه إنما قصد أنْ تكون مقبرته ذات تصميم مشابه للتاج، وأنْ يكون بالرخام الأسود، ويُشيد في حديقةٍ على الجانب الآخر من النهر، على أنْ يكون متصلًا بضريح حرمِه بواسطة جسر، وبالفعل، ثمة آثار لقواعد الإنشاء مثل بناء واقع في الجانب الآخر من نهر جمنا.

والحقُّ يقال، إنَّ مثل هذه الروايات وتلك القصص غير صحيحة، فإنها تنتمي إلى الخيال أكثر منها إلى التاريخ. ويبدو أنَّ الرحالة تويرنير سجَّل في مذكراته بعضَ الشائعات البازارية، ثم إنَّ روايته الخاصة تحمل تناقُضًا داخليًّا، ولا يمكن الاعتمادُ عليها في ضوء الحقائق والوقائع التاريخية. فكان الرحالة في الهند لأول مرة في رحلته الثانية إلى الشرق فيما بين عامي 1640-1642م، حينما كان تاج محل لا يزال تحت الإنشاء، ولم يكن من الممكن أنْ يبدأ بناء نسخة طبق الأصل على الجانب الآخر من نهر جمنا. ثم زار ذلك الرحالة الهند وأگرا في شهري أغسطس وسبتمبر عام 1665م، حيث اكتمل بناء تاج محل في عام 1648م، فقد بدأ بناؤه نحو عام 1631م. ومن الواضح أنه إذا شرع السلطان في إنشاء أيِّ بناء لتاج الثاني، فلا يمكن أنْ يكون تاريخ ذلك البناء قد بدأ إلا بعد عام 1648م، وقبل ذلك بكثير عام 1658م عندما خُلع السلطان شاهجهان أخيرًا بعد الحرب على الخلافة وحُدّدت إقامته الجبرية. فقد ربط الرحالة تورينر – على نحوٍ خاطئ- الأحداثَ الثلاثة المنفصلة في سياقٍ واحد، حيث جعل البناء المفترَض لتاج الثاني نحو عام 1648م، والحرب على الخلافة في عام 1658م، ثم التلميح إلى السلطان الحاكم أورنگ زيب عام 1665م، وهكذا فإنَّ تلك الفكرة تبدو خيالية ورومانسية لدرجة أنه لا يمكن قبول كونها تاريخية.

ومن المفارقة العجيبة، أنَّ المؤرخين المعاصرين للسلطان شاهجهان من مثل عبد الحميد لاهوري صاحب كتاب “بادشاه نامه”، وصالح كنبوه صاحب كتاب “عمل صالح”، ومحمد قزويني صاحب “پادشاه نامه” لم يشيروا إشارةً خاطفةً أو مفصلةً لمثل ذلك المشروع. بيد أنهم خصصوا صفحات عديدة في حولياتهم لذكر تاج محل وكيفية إنشائه وكل ما يتعلق به. ومن الصعب تفسير وجود بعض الآثار والبقايا على أنها قواعد لتشييد التاج الثاني بهذه الطريقة. أما الهيكلُ الحجريُّ الذي يمتدُّ إلى الغرب من برج مهتاب فهو ليس قواعد وأسُسًا للبناء، بل هو أطلال الجدار المحيط بحديقة مهتاب التي شُيِّدت بتوجيه السلطان ظهير الدين بابر المتوفى 1530م وتحت رعايته.

ومن أجل التأكد من ذلك، يمكن تتبُّع البنية الأساسية لبعض الأجنحة والقنوات المائية والخزانات والأقواس السائبة والألواح الحجرية، وغيرها من الآثار والمعالم الموجودة في المنطقة المجاورة. وفي واقع الأمر، فإنَّ تلك الآثار المذكورة آنفًا تشير إلى الموقع الذي خصَّصه بابر وأمراؤه لبناء حديقة “چهار باغ” كما دوَّن ذلك بابر في تزكه “بابر نامه”. وحديقة “چهار باغ” هي الحديقة ذات المسقط الأفقي المربع والتقسيم المتناسق في أربعة مربعات صغيرة متساوية المساحة من ناحية، وحديقة السطح من ناحية أخرى.

وبالإضافة إلى ذلك، يقع مسجد همايون بالقرب من ذلك المكان، ويعود تاريخ تشييده إلى عام 1530م الذي يقع في محيطه القريب. وثمة بناء آخر واسمه “گياره سيري” أيْ: السُّلَّم ذو الإحدى عشرة درجة، وهو عبارة عن بقايا المرصد الفلكيّ الذي بناه السلطان نصير الدين همايون المتوفى 1556م، والبِركة الواقعة في المكان نفسه هما حلقة أخرى لنفس السلسلة من المنشآت الواقعة في ذلك المكان. وقد امتدَّت حدود چهار باغ إلى حديقة آرام باغ، أمّا برج مهتاب فهو المبنى الوحيد الذي يقع بالجنوب الشرقي لحديقة مهتاب، ومعظم تلك المنشآت انهارت وبقيَت منها بعضُ الآثار، ولا يمكن مقارنتها بالبرج الشمالي الشرقي للتاج، فهو ذو أبعاد أكبر بكثير.

ويتكون برج مهتاب من طابق واحد، بُني على سطحه مظلة كبيرة، ويبلغ ارتفاعه اثني عشر قدمًا (3.66 متر) فوق النهر. أما البرج الشمالي الشرقي لتاج محل من ناحية أخرى، فإنه يتألف من عدة طوابق مع وجود مجمع فيه غُرف وشرفات يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثة وأربعين قدمًا (13.11 مترًا) على ضفاف النهر. ويختلف الاثنان اختلافًا كبيرًا في التصميم والتخطيط وكذلك في الارتفاع، ولا يمكن اعتبار الأول نسخةً طِبق الأصل للأخير بأيِّ شكل من الأشكال.

ويقال، إنَّ الموقع غير المنتظم للنصب التذكاري أو التابوت لشاهجهان مقارنةً بموضع تابوت الملكة ممتاز محل الذي يحتل مركزًا رئيسًا في قاعة التاج دليلٌ على ذلك الافتراض، إلا أنَّ هذا الوضع يضاهي ذلك النصب التذكاري الموجود في مقبرة اعتماد الدولة (بُنيت في أگرا بتوجيه الملكة نورجهان بيگم زوج السلطان جهانگير، لوالديها ميرزا غياث بيگ وعصمت بيگم) في الطابق الأرضي وكذلك في الصالة العليا، حيث يقع ضريح تذكاريٌّ لعصمت بيگم في المنتصف تمامًا، في حين يقع النصب التذكاري لميرزا غياث بيگ في موقع غير متماثل تمامًا إلى اليمين. إلا أنَّ هذا الوضع غير المنتظم لا يمكن تمييزه بسهولة ويُسر؛ وذلك لأنَّ النُّصب التذكارية هناك في مقبرة اعتماد الدولة ليست محاطةً بسياج، على حين سدَّد الممر داخل السياج المغلق عمليًا في التاج بواسطة النصب التذكاري لشاهجهان، ومن ثم، يجذب الانتباهَ على الفور إلى موقعه غير المتماثل وموضعه غير متناسق. وبموجب ذلك يقال بأنه عند وقت الانتهاء من بناء تاج محل، لم يكن من المخطط أنه سيدفن شاهجهان فيه.

ومن ثم، فإنَّ وجود السياج المغلق المصنوع من الرخام المخرم حول النصب التذكارية/التوابيت في تاج محل، مكّن من ملاحظة ذلك الانحراف، في حين لا يمكن ملاحظة الشيء نفسه بسهولة في مقبرة اعتماد الدولة. وفي كلتا الحالتين، فإنَّ الزوجة قد سبقت الزوجَ إلى مسكنها السماوي، وأيضًا يرقد جثمان كلٍّ منهما في مكان المركز. بعد دفنهما وفقًا للشريعة الإسلامية، حيث وُضع الوجهان تجاه القبلة، والأرجُل باتجاه الجنوب، ويرقد الزوج إلى الجانب الأيمن من قبر زوجه. ومن ثم، فإنَّ التفسير القائل بأنَّ النُّصب التذكاري لشاه جهان لم يكن من المفترض أنْ يكون مكانه هنا، يبدو غير ضروريٍّ. والحقُّ أنَّ قصة بناء تاج محل الثاني تستند إلى محض إشاعات، ويبدو أنَّ المرشدين السياحيين المتحمسين هم مَن عملوا على تداوُلها وترويجها؛ بهدف إضفاء هالة واسعة من الجمال والروعة عليهما، كما لو كانت ثمة حاجة لذلك!.

ومهما كانت الحالة الأولية التي كان يوجد بها تاج محل الأسود، فلا يوجد دليل ملموس على ما يبدو، ولا توجد روايات وأخبار معاصرة قوية تؤكد لنا وجود المشروع المقترح، ما عدا أقوال ذلك الرحالة الفرنسي تويرنير كما سبق ذكره. ووفقًا للمصادر فإنَّ السلطان شاهجهان أصدر أوامر بتغيير وضْع حديقة مهتاب وتحسين حالها باعتبارها جزءًا من تاج محل، ولذلك ثمة احتمال أنْ يكون هذا المكان خُصص لبناء تاج محل الأسود غير أنه لا يوجد دليل قاطع على ذلك. قام علماء الآثار بتمشيط المنطقة بدقة بالغة على مر السنين، وإنَّ الرخام الأسود الوحيد الذي عُثر عليه في أثناء الحفريات في تسعينيات القرن الماضي كانت عبارة عن كميات صغيرة، ويُعتقد أنه مجرد رخام أبيض تقادم به الزمن. ومن المحال التأكد من الوضع الحقيقي لتاج محل الأسود الغامض. ولعل شاهجهان لم يشيد ضريحًا مجيدًا خاصًا به إلا أن ذكراه خلدته في خيال العامة.

وفي نهاية المطاف ولعل من المناسب أن نشير هنا إلى أن العديد من القصص الأخرى والتأويلات رُويت ودُونت عن تاج محل، وكيفية بنائه وصُنَّاعه ومهندسيه، بعضها أسهمت في ترويجه مذكرات الرحالة الأوربيين وكتاباتهم. ومنها على سبيل المثال تلك الخرافة أو النظرية القائلة بأن من وضع تخطيط تاج محل وتصميمه هو المهندس الإيطالي جيرونيمو فيرينيو، فقد روج تلك الخرافة هنري جورج كين لأول مرة في عام 1879م في أثناء ترجمته لمذكرات المبشر والرحالة البرتغالي سيباستين مانريكي الذي زار الهند في القرن الحادى عشر الهجري، تحت عنوان (The Travels of Fray Sebastian Manrique, 1629–1643).

ثم جاء ويليام هنري سليمان، الذي شغل منصب المقيم السياسي في گواليار وأوده بالهند في القرن التاسع عشر الميلادي، وبنى فرضياته مستندًا إلى مقالات الرحالة تويرنير المذكور، بأن مهندسًا فرنسيًا يدعى أغسطن دي بوردو (Augustin de Bordeaux) هو من صمم تاج محل وخطط له. ثم روج الأب هوستن هذه الأفكار والحكايات، وناقشها مرة أخرى المستشرق والرسام البريطاني إرنست بينفيلد هافيل (E.B. Havell) في كتابه الخاص عن المعالم الأثرية في الهند بعنوان: (A Hand Book To Agra And The Taj – Sikandra, Fatehpur-sikri And The Neighbourhood)، واتخذها أسسًا للنظريات والجدليات التي أثيرت فيما بعد. إلا أن الحوليات التاريخية المعاصرة لسلطان شاهجهان والتوقيعات والرسومات الموجودة على جميع المبان في مجمع تاج محل تحمل في طياتها أسماء أولئك المخططين والمهندسين المعماريين الهنود الذين تولوا تنفيذ المشروع منذ البداية إلى النهاية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل