الهجرة النبوية الشريفة

نور19 أغسطس 2020آخر تحديث :
الهجرة النبوية الشريفة

تُعدّ الهجرة نهجاً مُتّبعاً للأنبياء والرسل -عليهم السلام- في سبيل نشر الدعوة إلى الله تعالى، وحمايتها من كيد وبغي المعادين لها، ولم تكن الهجرة قاصرةً على النبيّ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم؛ بل إنّ عدداً من الأنبياء قبله قد هاجروا ممتثلين لأمر الله تعالى؛ لينشروا الدعوة بعيداً عن تضييق المضيقين أو منع المانعين، فهاجر أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السّلام- بعد كيد قومه له وتآمرهم عليه وعلى دعوته، وهاجر لوط -عليه السّلام- كما هاجر عمّه إبراهيم، وهاجر موسى -عليه السّلام- ومن آمن معه من بطش فرعون، وهاجر النّبيّ محمدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- في سبيل نشر الدعوة.
تاريخ الهجرة النبوية
أذن الله -تعالى- لنبيّه بالهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاث عشرة سنةٍ من البعثة والدعوة في مكة المكرمة،وورد عن ابن إسحاق أنّ الهجرة النبوية كانت في السابع والعشرين من شهر صفر من السنة الرابعة عشرة من بعثة النبي محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، أمّا وصوله إلى المدينة المنورة فكان في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وذلك على اعتبار أنّ شهر محرّم الشهر الأول من السنة الهجرية
أسباب هجرة الرسول من مكّة إلى المدينة أسبابٌ متعلّقةٌ بموقف قريش لم تكن أُولى حركات الهجرة متمثّلةً بهجرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة المنوّرة؛ فقد سُبقت الهجرة إلى المدينة بهجرة بعض المؤمنين الأوائل من الصحابة -رضي الله عنهم- من مكّة إلى الحبشة، وكان ذلك بأمرٍ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ نظراً لاشتداد أذى المشركين في مكّة عليهم، ولم يكن لهم من يحميهم من أذى قريش، بينما كان رسول الله في حماية عمّه أبي طالب، لذا فإنّ من أعظم أسباب ودوافع الهجرة سواءً إلى الحبشة ومن بعد إلى المدينة المنوّرة؛ حماية أنفسهم من إيذاء المشركين الذي مسّ الصّحابة رضي الله عنهم، فقد تعرّض كثيرٌ منهم إلى التعذيب الجسديّ في سبيل دين الله -تعالى- والثّبات عليه، فعُذّب بلال بن رباح رضي الله عنه، وأُلقي في الصحراء في شدّة الحرّ، وعُذّب آل ياسر رضي الله عنهم، ووعدهم رسول الله لقاء صبرهم بالجنّة، وعُذّب كثيرٌ من المسلمين غيرهم.
كما إنّ من أبرز الأسباب الدّافعة للهجرة؛ الحصار الذي فرضته قريش على المسلمين وعلى بني هاشم خاصّةً، حيث تآمرت قريش واجتمع رجالٌ منها على تنفيذ حصارٍ ظالمٍ يقتضي مقاطعة المسلمين، وحصارهم اقتصاديّاً واجتماعيّاً؛ فلا يتزوّجوا منهم أو يزوّجوهم، ولا يبتاعوا منهم أو يبيعوهم، وأصاب المسلمون من هذا الحصار أذىً وسوءاً شديداً؛ حتّى إنّ منهم من أكل ورق الشجر من شدّة الجوع، واستمرّ الحصار والمقاطعة حتّى اجتمع أربعة رجالٍ من قريش يرفضون فيما بينهم مقاطعة أبناء عمومتهم وأرحامهم من بني هاشم، واتّفقوا على إنهاء المقاطعة، وجاؤوا إلى قريش ليخبروهم بوجوب إنهاء المقاطعة، فلمّا رجعوا إلى الصحيفة التي كُتبت عليها بنود المقاطعة وجدوها وقد أكلتها حشرة الأرضة إلا لفظ الجلالة.
وقد بلغ من تآمُر كفّار قريش على النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- أن اجتمعوا؛ ليخطّطوا لكيفيّةٍ يتخلّصون فيها من رسول الله، ويوقفون دعوته، فمنهم من اقترح حبسه، ولم يلْقَ هذا الرأي القَبول خوفاً من مَنعة بني هاشم قوم النبي له، ومنهم من رأى نفيه وإخراجه، ورُفض هذا الرأي أيضاً؛ خشية أن يجتمع النّاس عليه ويسمعوا دعوته، إلى أن اتّفقوا على أن يأتوا من كلّ قبيلةٍ برجلٍ يقف على باب بيته، فإذا خرج ضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ؛ فلا تتمكن حينها بنو هاشم من المطالبة بالقصاص، ويضيع دمه بين القبائل، وقد أطلع جبريلُ -عليه السّلام- رسولَ الله بمؤامرة قريش، فأمر الرسول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنوم في فراشه، وأغشى الله النّعاس على الرجال وكانوا عشرة، فلم يروا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونجّاه الله -تعالى- من سيوفهم. أسبابٌ متعلّقةٌ بنشر الدعوة الإسلاميّة حرص النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على دعوة أهل مكّة للإسلام، وباشر دعوتهم إليه مُنتهجاً في سبيل ذلك أساليب متّسمةً بالرّفق؛ كالحكمة والموعظة الحسنة، إلّا أنّ أهل مكّة وقتها لم يتقبّلوا الإسلام، وحاربوا دعوته؛ فدعا ذلك النّبيّ -صلّى الله عليه سلّم- إلى البحث عن مكانٍ آخر للدعوة، وقد لقي النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في المدينة المنوّرة وأهلها قبولاً للدعوة وإقبالاً عليها، خاصة حين لقي في موسم الحجّ جماعةً من الخزرج، وهي قبيلةٌ من القبائل القاطنة في المدينة المنوّرة، ودعاهم للإسلام.
وقد استجاب الرجال من الخزرج للنبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- حين حدّثهم عن الإسلام، وتلا عليهم من القرآن، ولم يستغرب الخزرج دعوة النبيّ؛ إذ هم في المدينة يجاورون اليهود الذين كانوا يحدّثون عن قرب قدوم نبيٍّ لزمانهم، ورجع الخزرجيون إلى المدينة المنوّرة، وأخبروا قومهم بدعوة النّبي عليه الصّلاة والسّلام، حتّى إذا حلّ العام القادم جاء اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج، وبايعوا النبيّ على الإسلام في مكانٍ يُدعى العقبة؛ فسمّيت البيعة لذلك ببيعة العقبة الأولى، ورجع هؤلاء الرجال إلى المدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ ليعلّمهم أمور الدين، ورجعت في العام الذي يليه جماعةٌ من الأوس والخزرج، بلغ عددهم ثلاثةً وسبعين رجلاً وامرأتين، فدعاهم النبي إلى الإسلام، وبايعهم على أن يحموه وينصروه إذا هاجر إليهم، فتمّت بذلك بيعة العقبة الثانية.
كما إنّ من أبرز دوافع الهجرة؛ الحاجة لتكوين دولةٍ إسلاميّةٍ، وإقامة أسسها؛ إذ إنّ عالميّة رسالة الإسلام لا تتحقّق داخل نطاقٍ ضيّقٍ بين قبائل قريش، خاصّةً في ظلّ رفض قريش ومعاداتها للدعوة ونشرها، فكان لا بُدّ من تأسيس كيانٍ اجتماعيّ تحت نظامٍ سياسيّ، في نطاقٍ ومحيطٍ آمنٍ، على هيئة دولةٍ تحفظ أمن ساكنيها، وتكفل للدعوة الحقّ في الانتشار، وبذلك تتحقّق عالميّة الإسلام المتمثّلة في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
طريق الهجرة النبوية الاستعداد للهجرة نزل الإذن الإلهيّ بهجرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بواسطة الوحي، فذهب النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى بيت أبي بكرٍ رضي الله عنه، وقال له: (فإنِّي قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ؛ فقالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحابَةُ بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعَمْ، قالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ -بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ- إحْدَى راحِلَتَيَّ هاتَيْنِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بالثَّمَنِ)، والمقصود بقول أبي بكر: “الصحابة”؛ أي أنّه يريد صُحبة رسول الله في هجرته ويسأله ذلك، فأجابه النبيّ بالقبول، فكان أبو بكرٍ رفيقه في طريق الهجرة.
وحين همّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بالخروج من مكّة المكرّمة، تحرّكت عاطفة المحبّة لوطنه، واستحضر مكانتها العظيمة في وجدانه؛ لوجود البيت الحرام فيها، فقال مودّعاً إيّاها: (ما أطيبَكِ مِن بلدةٍ وأحَبَّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرَجوني منكِ ما سكَنْتُ غيرَكِ)، ثمّ انطلق رسول الله مع صاحبه أبي بكر مُستَخْفيين عن أعين قريش، وغادرا مكّة المكرّمة، وفي طريق السّير كان أبو بكرٍ الصديق يمشي ساعةً أمام النبي وساعةً خلفه؛ من فرط خوفه عليه ومحبّته له، وليحميه، وعند وصولهما إلى غار ثورٍ لم يقبل أبو بكر إلّا أن يدخل قبل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ويتحسّس المكان؛ ليتفقّده ويتأكّد من أمنه، ثمّ دخل رسول الله ومكث مع أبي بكرٍ في الغار عناية الله بالرسول في الهجرة بالرغم من أخذ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لأسباب الحيطة والحذر قبل وأثناء هجرته، إلّا أنّه لم يركن إلى تلك الأسباب أو يتّكل عليها، بل كان كلّ اتكاله على الله تعالى، وكان ملازماً للدعاء الوارد في قوله تعالى: (وَقُل رَبِّ أَدخِلني مُدخَلَ صِدقٍ وَأَخرِجني مُخرَجَ صِدقٍ وَاجعَل لي مِن لَدُنكَ سُلطانًا نَصيرًا)،وقد سخّر الله -تعالى- لرسوله وصاحبه أبي بكر جنداً من مخلوقاته؛ لتضليل كفّار قريش الذين لحقوا بالنبيّ بعد أن عرفوا بخروجه من مكّة المكرّمة، إلى أن وصلوا إلى باب غار ثور الذي يأوي النبيّ وأبا بكرٍ، وكانوا على مقربةٍ منهما، فوَجِل أبو بكرٍ، وطمأنه النبيّ وقال له: (ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا).
وجيّشت قريش الناس؛ فأعلنت في نواديها عن مكافأةٍ ممثّلةٍ بمئةٍ من الإبل لمن يأتي بالنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حيّاً أو ميّتاً، فسمع بذلك سراقة بن مالك، وخرج يتتبّع أثر النّبي؛ طمعاً في المكافأة، فلمّا اقترب من النبيّ وأبي بكر، وكاد أن يصل إليهما، غاصت قدما فرسه في الرمل، ولم يستطع التقدّم بها، فأخبر سراقةُ النبيَّ بمؤامرة قريش، وسأل النبيُّ سراقةَ أن يخفي عن قريش أمره وأمر أبي بكر، ووعده مقابل ذلك بسواري كسرى، فرجع سُراقةُ وأخفى خبر النبيّ عن قريش، وهذا من عناية الله بنبيّه؛ إذ أبدل حال سراقة الذي جاء ليمسك بالنبيّ ويسلّمه لقريش، فتركه وأخفى أمره ولم يمسّه بأذى
أشخاصٌ بارزون في الهجرة النبوية :  برزت في رحلة هجرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- منذ الإعداد لها وأثنائها أسماءٌ لامعةٌ، كان لها دور كبير في تسهيل مهمّة الهجرة وتمام وصول رسول الله وأبي بكر إلى المدينة المنوّرة بسلامٍ، ومن بين تلك الأسماء: علي بن أبي طالب: مكث -رضي الله عنه- في فراش النبيّ بأمرٍ منه، فلبس ثياباً للنبيّ، ونام مكانه؛ ليخدع رجال قريش الذين تآمروا على قتل النبي، ويردّ الأمانات التي كانت عند النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لأصحابها.
أسماء بنت أبي بكر: لُقّبت -رضي الله عنها- بذات النطاقين؛ لأنّها شقّت نطاقها، وربطت بقطعةٍ منه زاد وطعام النبيّ ووالدها الذي أخذاه في سفرهما، كما إنّها طمأنت بحكمتها جدّها أبا قُحافة الذي خاف بعد خروج أبي بكر للهجرة بكلّ ماله أن يترك عياله بلا مالٍ، فقامت أسماء بجمع حجارةٍ، وغطّتها بثوبٍ، وجعلت جدّها يتحسّسها إذ كان كفيف البصر، فاطمأنّ.عبد الله بن أبي بكر: كان -رضي الله عنهما- في أثناء مبيت النبيّ وأبي بكر في غار ثور يأتيهما فيبيت عندهما ويغادرهما في عتمة الليل، ويصل مكّة قُبيل الصبح؛ فيظنّ النّاس أنّه بات في مكّة، وكان يسمع أخبار قريش وما يتآمرون به على النبيّ وأبي بكرٍ، وينقله لهما في الغار.
عامر بن فهيرة: كان مولى لأبي بكر رضي الله عنهما، يرعى له غنمه، فلمّا هاجر أبو بكر مع النبيّ، كان عامر يأتي بالأغنام بعد عودة عبد الله بن أبي بكر من الغار، فيطمس أثر مسيره؛ ليخفيه عن قريش إذا تتبّعته.
نتائج هجرة الرسول إلى المدينة : تمخّضت الهجرة النبويّة عن جملةٍ من النتائج التي كانت في صالح المسلمين والدعوة الإسلاميّة، ومن أبرز تلك النتائج:
إقامة الدولة والمجتمع المسلم: مكّنت الهجرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وصحابته من إقامة دولة تقيم الحقّ وتُحارب الباطل، وتزيل الفوارق بين الناس، وتمنع الإفساد في الأرض، كما عملت على تأسيس مجتمعٍ مسلمٍ في المدينة المنوّرة، يحمل رسالة الإسلام، ويكون داعياً ومبلّغاً لها للأجيال القادمة في ظلّ دولةٍ تجمعهم وتحميهم،وقد قامت الدولة الإسلاميّة على مجموعةٍ من الأسس، منها:العبوديّة الخالصة لله وحده؛ فلا مجال لإشراك غيره بالعبادة، بعبادة الأصنام أو الكواكب أو غيرهما. الأُخوّة ووحدة الصفّ؛ فالأُخوّة في الدين والإيمان هي الأساس الذي قامت عليه العلاقات في المجتمع المسلم. الطاعة لأوامر الله -تعالى- وأوامر نبيّه، والاستجابة لها.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: كان من نتاجات الهجرة المهمّة أن آخى النبيّ بين المهاجرين والأنصار؛ فيُؤازر الأنصاري أخاه المهاجر وينصره، وكان المسلمون بهذه المؤاخاة يرث أحدهم الآخر كما يرث من أقربائه ورَحِمه، إلى أن نزل قوله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ)
.بناء المسجد: باشر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بناء المسجد بعد وصوله إلى المدينة، وقد اشترك المسلمون في بنائه، وبنوه من بعض الحجارة، وجعلوا أعمدته من جذوع النخل، وسقفه من الجريد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل