بدت التوقعات في القرن الماضي وكأنها وعود للمستقبل، وستكون ساعات العمل قصيرة، وسيأخذ أبناؤنا عطلات طويلة وستكون لديهم مرونة كبيرة في اختيار العمل وساعات الدوام، في حين سيؤدي التقدم الاقتصادي والتكنولوجي إلى تقليص ساعات العمل اليومية.
لم يكن هناك ما يشكك في أن هذه الأفكار لن تتحقق، فقد وفرت تكنولوجيا الاتصالات وأدوات النقل والمواصلات وصناعة السيارات والطائرات ما يوفر الوقت ويجعل الحياة أكثر سرعة ويقلل الأعباء، وبدأ الخبراء يتساءلون عما سيفعله الناس بأوقات فراغهم الطويلة، لكن ما حدث في الواقع كان مختلفا تماما.
وكان عالم الأنثروبولوجيا الأناركي ديفيد غريبر، مؤلف الكتب الأكثر مبيعًا عن الرأسمالية والبيروقراطية، واحداً من هؤلاء المشككين في وعود المستقبل والعمل الحديث، ونشر عدة كتب تحمل أفكاراً ناقدة للحياة الحديثة قبل أن يرحل عن عمر ناهز 59 عامًا مطلع سبتمبر/أيلول الجاري.
واشتهر غريبر بكتاباته اللاذعة والحاسمة عن البيروقراطية والسياسة والرأسمالية، وكان شخصية بارزة في حركة “احتلوا وول ستريت” وأستاذ الأنثروبولوجيا في كلية لندن للاقتصاد (LSE) وقت وفاته.
ويتوقع نشر كتابه الأخير “فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية” خريف عام 2021 المقبل، بحسب تقرير لصحيفة غارديان البريطانية.
ولد غريبر في نيويورك عام 1961 لوالدين نشطين سياسيًا حيث قاتل والده في الحرب الأهلية الإسبانية، في حين كانت والدته عضوًا في اتحاد عمال الملابس النسائي الدولي. وقد جذب غريبر الاهتمام الأكاديمي لأول مرة بسبب هوايته المراهقة لترجمة الهيروغليفية للغة المايا.
بعد دراسة الأنثروبولوجيا في جامعة ولاية نيويورك وجامعة شيكاغو، حصل على زمالة فولبرايت المرموقة، وقضى عامين في العمل الميداني الأنثروبولوجي في مدغشقر بالمحيط الهندي.
تاريخ الديون
كتابه “الديون: أول 5000 سنة” جعله مشهوراً، إذ استكشف غريبر العنف الذي يكمن وراء كل العلاقات الاجتماعية القائمة على المال، ودعا إلى محو الديون السيادية والاستهلاكية. وفي حين أن الكتاب نال ردود فعل مختلفة من النقاد، فقد حقق مبيعات قياسية وثناء من الجميع، من الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي إلى الكوميدي الإنجليزي راسل براند، بحسب تقرير غارديان.
يدرس المؤلف العلاقة بين الديون والمؤسسات الاجتماعية القديمة والحديثة، مثل الزواج والقانون والحرب ونظم الحكم، ويرى أن الديون يتم فرضها من الدولة بقوة الجيش والشرطة
ويرى غريبر أن الديون واحدة من أقدم طرق التجارة التاريخية، مؤكداً أن النقد والمقايضة كانا عبارة عن تطورات عن فكرة الدين الأقدم المسجلة في حضارة سومر حوالي 3500 عام قبل الميلاد، ووصف مؤلف غريبر بأنه قد يكون أكثر كتب الأنثروبولوجيا العامة قراءة في القرن 21.
الديمقراطية والنضال السياسي
تبعها غريبر عام 2013 بمشروعه الفكري “الديمقراطية: تاريخ، أزمة، حركة” حول عمله مع “احتلوا وول ستريت” ثم “يوتوبيا القواعد: في التكنولوجيا والغباء وأفراح البيروقراطية السرية” عام 2015، والتي استلهمت من نضاله من أجل تسوية شؤون والدته الشخصية قبل وفاتها.
وأدى مقال نُشر عام 2013، بعنوان “ظاهرة الوظائف الهرائية” إلى كتابه الصادر عام 2018 ويحمل العنوان ذاته حيث جادل فيه بأن معظم وظائف ذوي الياقات البيضاء لا معنى لها وأن التقدم التكنولوجي أدى إلى زيادة عمل الناس وليس تقليله.
وقال في كتابه “قطاعات ضخمة من الناس، في أوروبا وأميركا الشمالية على وجه الخصوص، يقضون حياتهم العملية بأكملها في أداء مهام يعتقدون أنها غير ضرورية. الضرر المعنوي والروحي الناجم عن هذا الوضع عميق. إنها ندبة عبر روحنا الجماعية. ومع ذلك، لا أحد يتحدث عن ذلك تقريبًا”.
وفي كتابه “يوتوبيا القواعد” يذهب غريبر أبعد من ذلك في تحليله للخطأ الذي حدث، ويقول إنه كان من المفترض أن يؤدي التقدم التكنولوجي إلى انتقالنا عن بعد إلى كواكب جديدة، ويسرد بعض العجائب التكنولوجية الأخرى المتوقعة التي يشعر بخيبة أمل لعدم وجودها، مثل السيارات الطائرة، الرسوم المتحركة المعلقة، أدوية الخلود، الروبوتات الذكية، المستعمرات على المريخ.
ويقول “باعتباري شخصًا كان يبلغ من العمر 8 سنوات وقت هبوط أبولو على سطح القمر، لدي ذكريات واضحة عن أنني سأبلغ 39 عامًا عام 2000 السحري، وأتساءل كيف سيكون العالم من حولي. هل توقعت بصدق أنني سأعيش في عالم به مثل هذه العجائب؟ بالتأكيد، هل أشعر بالغش الآن؟ تماماً”.
عام 2011، انخرط غريبر في حركة “احتلوا وول ستريت” والتي وصفها بأنها “تجربة في مجتمع ما بعد بيروقراطي”. كان هو صاحب الشعار الشهير “نحن الـ 99%”، وقال “أردنا أن نثبت أنه بإمكاننا القيام بجميع الخدمات التي يقوم بها مقدمو الخدمات الاجتماعية بدون بيروقراطية لا نهاية لها”.
وحكى ما حدث قائلاً “في الواقع، في وقت من الأوقات في حديقة زوكوتي، كان هناك كيس قمامة بلاستيكي ضخم يحتوي على 800 ألف دولار. استمر الناس في إعطائنا المال لكننا لن نضعه في البنك. لديك كل هذه القواعد واللوائح. ولا يمكن لشركة (احتلوا وول ستريت) امتلاك حساب مصرفي. أقول دائمًا إن مبدأ العمل المباشر هو الإصرار الجريء على التصرف كما لو كان المرء حراً بالفعل”.