وضع سيرجي كريكاليف في شهر ماي من العام 1991 بدلته الفضائية، واستعد لامتطاء الصاروخ الذي سيحمله هو ورائدا فضاء آخران، البريطانية هيلين شارمان، وصديقة السوفييتي آناتولي آرتسبراسكي، إلى “مير”، محطة الفضاء السوفييتية التي كانت تحلق على ارتفاع 350 كم من سطح الأرض.. ارتفع هدير المحرك من قاعدة الإنطلاق في ما يعرف اليوم بـ “كازاخستان”: “3 2 1″، وبعد مضي ما يقارب الـ تسع دقائق، كان سيرجي في الفضاء، مع أصدقائه، يسبح، في محطة “مير”، يتقلب في محيط المحطة الفضائية، لا يحمل فوق كتفيه أي وزن آخر!
من الأعلى، كان يبدو كل شيئٍ مثالياً، الأرض، كانت خضراء، ثم أصبحت بيضاء، نزل الثلج فوق الغابات، هناك من ينامون في نصف الكرة الأرضية، وهناك من يستيقظون في المنتصف الآخر، أما سيرجي، فكان يشاهد كل شيء من الأعلى. سيرجي كان طياراً مبهراً بالفعل بنهاية العقد الثاني من عمره، كان قد صعد إلى الفضاء قبل هذه المرة عدة مرات، وأجرى العديد من المناورات وكان يعمل في العديد من المهمات أيضآً، ولكن هذه المرة كانت المحطة “مير” بحاجة لعناية، وسيرجي كان سيبقى لمدة 5 أشهر ليعتني بالمحطة جيداً. من بين رواد الفضاء الثلاثة، سيرجي هو الأكثر كفاءة والأكثر قدرة على الإعتناء بالمحطة.
كان سيرجي مشغولاً بـ إدارة المحطة، يختلس النظر على الأرض في الأسفل كلما أتيحت له الفرصة. يدور حول الأرض أكثر من 10 مرات في اليوم الواحد، ويرى منها ما لا يراه غيره. الأرض نفسها كانت مبهرة، ولكن شيئاً ما في الأسفل كان يتغير، فما أن انبثقت شمس فجر الـ 19 من أوت 1991، حتى اقتحمت الدبابات العسكرية الميدان الأحمر في موسكو، وبدأت محاولة الإنقلاب على ميخائيل غورباتشوف، رئيس الإتحاد السوفييتي آنذاك، لم يكن يعرف سيرجي ما الذي يحصل حقاً، فحين كان كل شيئ يبدو مثالياً من الأعلى، ولم تكن الحدود مرسومة حول أي شيء، كان كل شيء يتغير بسرعة في الأسفل.
كانت بلاده، الإتحاد السوفييتي، تمر بأصعب أوقاتها على الإطلاق، بدأت محاولة الإنقلاب في أغسطس، وبدأ الإتحاد السوفييتي ينزف الأموال، الروبل السوفييتي يتدهور يوماً بعد الآخر.. مر سبتمبر، ثم أكتوبر، كانت البريطانية هيلين شارمان قد تركت المحطة بالفعل وعادت إلى الأرض التي كانت تشهد أوقاتاً عصيبة للإتحاد السوفييتي، وقبل أن ينتهي أكتوبر استقل آرتسبراسكي كبسولة ليعود للأرض رفقة مهمة أخرى زارت المحطة، وبقي سيرجي، وحده!
أتى نوفمبر، وكان الوقت عصيباً، كان من المفترض أن يكون سيرجي في الأرض بالفعل منذ شهر، ولكن الرد كان يأتيه من الأرض بأن الأموال غير متوفرة حالياً لكي تمول مهمة عودته، الأولوية الآن تكمن في أن يحافظ الإتحاد السوفييتي على رباطة جأشه! هل سيتمكن سيرجي من الصمود؟ قد تضمر عضلاته، وهناك خطر إصابته بالسرطان، وتعرضه للإشعاعات، بدأت الشكوك تساور سيرجي.. ثم أتى ديسمبر!! شهر آخر، وسيرجي يتلقى الرد نفسه: “لا يوجد هناك أموال كافية”، كان الإتحاد السوفييتي يتساقط، دولة، تلو الأخرى، يتفكك، وسيرجي في الأعلى، لم يكن يعرف أنه على سبيل المثال أن مدينته لينينغراد لم تعد تسمى لينينغراد، بل أصبحت سان بترسبيرغ، وأنه أثناء الـ 5000 مرة التي دار فيها حول الأرض تفككت دولته الكبيرة إلى 15 دولة، الـ 22 مليون كم مربع الذي جمع الإتحاد السوفييتي واحتوى مدينته تقلص حجمه بأكثر من 5 ملايين كم مربع، وكان الأمر المؤسف تماماً هو أن سيرجي أصبح بلا وطن بشكل رسمي حين اعتلى ميخائيل غورباتشوف المنصة في 25ديسمبر 1991، ليعلن تفكك الإتحاد السوفييتي رسمياً وتنحيه من منصب الرئاسة..أما سيرجي، كان في الأعلى، يدور، ويدور.. لا يستطيع العودة، لأن الدولة التي وعدته بأن تعيده، لم تعد موجودة.
حل العام الجديد، يناير، كان سيرجي في الأعلى يدور حول الأرض، ولكنه آخر ما يهم الآن
و مع ذلك لم ينقطع أمل سيرجي ، إلى أن جاءته العبارة صريحة تماماً ..
(البلد التي وعدتك بالعودة لم يعد لها وجود أنت مضطر للبقاء في الفضاء)..
تقبل سيرجي الأمر و قرر ان يتأقلم مع الوضع بأي وسيلة و أي طريقة كانت ..
و كما كان سيرجي يحارب في الفضاء كانت روسيا تحارب لجمع الأموال و ترميم اقتصادها فأضطرت لبيع مقاعدها في صاروخ سويوز ..
، اشترت النمسا مقعد بـ 7 ملايين دولار، واشترت اليابان رحلة لـ مذيع تلفازي إلى الفضاء بـ 12 مليون، ولكن ولا رحلة تبرعت لـ تعيد سيرجي، رائد الفضاء، المنسي.رغم ضخامة قضيته في الإعلام و تفاعل الناس من حول العالم معها انذاك .. كانت محطة “مير” تحتاج لعناية، ولكن لكي يعود سيرجي هناك أولاً من يجب أن يكون مكانه، وثانياً من يتحمل تكاليف عودته ..
مرت الأيام و الشهور حتى أتى شهر امارس ..
هنا أعلنت ألمانيا أنها سترسل رائد فضاء آخر غير سيرجي و ستدفع 24 مليون دولار ثمن تكاليف عودة سيرجي .
و في يوم 25 مارس استقبل العالم آخر مواطن سوفييتي ..
سيرجي هبط على الأرض و هو يرتدي بدلته الفضائية التي عليها الأحرف السوفيتية الأربعة USSR “اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية”، و المنجل الأصفر ..
و يحمل في يده علم دولة لم يعد لها أي وجود ..
و طبعاً كان فاقد للحركة تماماً يحمله أربعة رجال
وجد عالماً آخر تماماً، غير الذي ودعه.. كل شيء تغير فيه إلى الأبد، هبط سيرجي كريكاليف، آخر مواطن سوفييتي على الإطلاق، بعد أن صعد إلى السماء سوفيتياً، وعاد.. روسي!
عاد سيرجي إلى الأرض، بألوان وعلم لدولة و وطن.. لم يعد هنا
هذا عدا عن جسده النحيل و فقدان صحته و عدم قدرته على المشي و الحركة ..
إلا أنه مع ذلك كان متفهماً للوضع تماماً فعلق معقباً على مكوثه كل تلك الفترة في الفضاء قال :
(إن روسيا في هذا الوقت كانت أولويتها توفير الأموال و ليس إنفاقها )
بالمدة التي قضاها سيرجي هناك ، كان قد حقق رقماً قياسياً بمكوثه311 يوم حيث قضى ضعف المدة التي كانت مخططة له .. الجميل في الموضوع أنه عاد ثانية للفضاء بعد سنتين و لكن هذه المرة لوكالة ناسا الأمريكية ..
و هو أول رائد فضاء وطأت قدمه محطة الفضاء الدولية الجديدة (ناسا) امتناناً لدوره العظيم و مهارته في التعامل مع ظروف الفضاء و التأقلم معها ..
سيرجي أصبح بطلاً قومياً و ذلك لأنه كان بإمكانه العودة بواسطة كبسولة كانت موجودة على متن المحطة لكنه اختار البقاء و عدم استخدامها ، لأنه يعلم أن مغادرته المحطة كان يعني نهاية المحطة “مير” و إتلافها للأبد..