قصة (تيد كازينسكي)، معجزة الرياضيات الذي أصبح أحد أخطر القتلة المتسلسلين في عصرنا

عمار5 مارس 2021آخر تحديث :
قصة (تيد كازينسكي)، معجزة الرياضيات الذي أصبح أحد أخطر القتلة المتسلسلين في عصرنا

في 24 أفريل سنة 1995، تلقى (جلبرت موراي)، المدير التنفيذي لرابطة غابات كاليفورنيا، طردًا في صدوق بريده، كان الطرد بحجم وشكل صندوق الأحذية ملفوف بورقة بنية اللون عادية، لكنه كان ثقيلاً بشكل غريب. وعلى غرابته فلم يكن موجهًا له، بل لسلفه.

كان المسؤول التنفيذي السابق (ويليام دينيسون) عضوًا في جماعات الضغط القوية العاملة في قطع الأشجار لمدة عقد من الزمن، وقد وجّه عدة تهم من المجموعات المناصرة للبيئة فيما كان يطلق عليه حروب الأخشاب. ورغم أن (دينيسون)، البالغ من العمر 47 عامًا، كان رجلًا مثيرًا للجدل، فقد كان (موراي) شخصًا لطيفًا ومحبوباً بكل المقاييس.

بعد الساعة الثانية ظهراً بقليل، فتح (موراي) الصندوق فوقع انفجار هائل في المبنى المبني من الطوب ذو الطابق الواحد، مما أدى إلى تحطيم النوافذ وخلع الأبواب من مفصلاتها. وقد قُتل (موراي) على الفور، فكان الضحية الثالثة لمفجر الجامعات والطائرات، أكثر الأشخاص المطلوبين في الولايات المتحدة، رغم أن أحدًا لم يعرف هويته.

(تيد كازينسيكي) المفجر الخطير:

منذ 17 عامًا، وضع شخص ما وأرسل المتفجرات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولم يكن أحد متأكدًا من هويته، أو عمره، أو مكان إقامته، أو حتى جنسه. في المجموع، تم إرسال 24 قنبلة، بعضها تسبب بقتل الناس. بين عامي 1978 و1995، روّع مفجر الجامعات والطائرات الحكومة الأمريكية بقنابل محلية الصنع أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وجرح 23 آخرين.

كل قنبلة أرسلها ذلك الشخص تم تصنيعها بشكل فريد، العديد منها صُنع من الخشب أو باستخدامه، وفي معظم الحالات، كانت المتفجرات مصنوعة من بارود طلقات البنادق ورؤوس الثقاب وغيرها من المواد المتاحة بسهولة. أحد أوائلها كان يشبه صندوق السيجار وترك في جامعة (نورث وسترن)، ظهر آخر مموهًا في شكل لوح خشبي بمسامير بارزة أمام متجر للحواسيب.

من بين المعدات الأولى والأكثر تعقيدًا، طرد مزود بمقياس ضغط جوي من شأنه أن يفجر الطائرة بمجرد وصولها إلى الارتفاع المناسب. إلا أن هذا الطرد لم يقتل أحداً، لكن مع مرور السنين تعلم المفجّر، فأصبح كل جهاز أكثر قوة، وأكثر قابلية للتخفي، وأكثر فتكا من الذي سبقه.

ولأنه أرسل قنابل إلى الجامعات وشركة طيران، فقد أشار مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى القضية باسم UNABOM، وهي اختصار لجملة مفجر الجامعات والطائرات، وأطلقت وسائل الإعلام عليه اسم Unabomber، وهنا سنسميه المُفجّر.

أخفى المُفجّر بدقة بصمات الأصابع من على قنابله. في أحيان أخرى عالج على ما يبدو بعض الأجزاء بالأسيد، كما عدّل على الأسلاك التجارية المستخدمة عن طريق إزالة العلامات التي تجعلها قابلة للتعقب. في بعض الأحيان عند إرسال القنابل، كان المُفجّر يقوم بإرسال طرود بريدية غير مستوفية لكامل التكاليف حتى يتم إعادتها إلى ”المرسل“ المكتوب على الصندوق، والذي كان هدفه الفعلي.
معظم ضحايا الهجمات على ما يبدو عشوائيون من شيكاغو إلى كاليفورنيا وصولًا لـ(نيو جيرسي)، لكن جميعهم كانوا أكاديميين وأعضاء في جماعات الضغط ومديري شركات الطيران وأصحاب متاجر الكمبيوتر، وكثير منهم تعرضوا للتشويه وفقدوا أصابع أو أطراف، وكان منهم من فقد بصره.

لحسن الحظ، بخلاف (موراي)، قُتل شخصان آخران فقط، ويبدو أن القواسم المشتركة الوحيدة بين الأهداف هي الارتباط الوثيق بالتكنولوجيا أو تدمير البيئة.

لم يملك المحققون أي دليل أو خيط يدلهم للفاعل، لكن عندما فشلت إحدى قنابله الأولى في الانفجار الكامل، وجدوا بعض الأغصان والأوراق داخل العلبة، وفي كل علبة تقريبًا، عليها الأحرف FC موجودة أو محفورة على أحد أسطحها.

اعتقد مكتب التحقيقات الفيدرالي أنهم يبحثون عن عامل عادي كادح (ميكانيكي غالبًا) أو أي شخص ذا معرفة في هذا المجال. كانت النظرية الشائعة هي أنه كان موظفًا سابقًا في إحدى شركات الطيران ساخطًا يتطلع إلى الانتقام من مجال عمله، لكن ما لم يدركه المحققون حتى بعد ذلك بوقت طويل هو مدى قربهم من أول تخمين لهم.

ففي تقريره الأولي، اقترح المحلل (جون دوغلاس)، من وحدة العلوم السلوكية في مكتب التحقيقات الفدرالي، أن الإرهابي كان ذكرًا أبيضاً في أواخر العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من عمره، وهو ”شخص وحيد مصاب بوسواس قهري ذو ذكاء فوق المتوسط“. وبما أن التفجيرات الأولى كانت في جامعة (نورث وسترن)، فربما كان الفاعل من شيكاغو وكانت له صلات بالأكاديميين.

أثبت تقرير (دوغلاس) أنه قريب من الصحة بشكل كبير، حيث تطابق (ثيودور تيد كازينسكي) الابن عملياً مع تلك التوقعات.

الرجل وراء القنابل:

وُلد (ثيودور جون ”تيد“ كازينسكي) في شيكاغو عام 1942، كانت طفولته في معظمها طبيعية لطفل يعيش في ضواحي الطبقة الوسطى. حظي بوالدين جيدين وأخ أصغر، (ديفيد)، الذي كان يعتبر أخوه الأكبر قدوته. عزف (تيد) آلة المترددة الموسيقية وأحبّ تجميع القطع النقدية.

كان هادئًا وحساسًا وخجولًا مع الآخرين، لكنه كان يحب الحيوانات واللعب في الخارج، كما حقق معدل ذكاء يقدر بـ167، مما جعله أعلى قليلًا من (ستيفن هوكينج) و(ألبرت أينشتاين).
نشأت والدة (كازينسكي)، وهي (واندا)، في أسرة فقيرة من المهاجرين البولنديين في جنوب أوهايو. بالنسبة لها، كان التعليم بوابة لحياة أفضل وقد اعتقدت بأن هذا ما سيكون صحيحًا بالنسبة لولديها، وعندما كان (كازينسكي) في الخامسة عشرة من عمره، تخرج في وقت مبكر من المدرسة الثانوية وبتشجيع من والديه تقدم وتم قبوله في جامعة (هارفرد)، بدأ عامه الأول في سن 16، لكن سيتبين أن هذا الطريق سيكون خطأ فادحًا.

خلال عامه الأول، جرى وضع (تيد كازينسكي) في سكن خاص مخصص لأصغر الطلاب الجدد وأقلّهم نضجًا. على الرغم من أن هذا كان يهدف إلى الرعاية، إلا أنه شجع من الناحية العملية الطبيعة الانطوائية لـ(كازينسكي)، فقد امتلك القليل من الأصدقاء، إن وجدوا أصلًا، وقضى معظم وقته في غرفته أو المكتبة عندما لا يكون في الفصل الدراسي، وقد كانت السنة الثانية أسوأ.

في ذلك الخريف، تلقت (واندا كازينسكي) رسالة قبول في البريد، إذ إن (تيد) ضُم لدراسة نفسية للشباب الموهوبين، وأشرف عليها أستاذه الدكتور (هنري موراي). ومع كونه قاصراً، فإنه لا يستطيع الموافقة على مشاركته بنفسه، تحمست (واندا) للموضوع، فقد كانت تشعر بالقلق منذ فترة طويلة بشأن صحة ابنها العقلية وفكرت ذات مرة في فحص إصابته بالتوحد، لذا وافقت سريعًا.

بكى (كازينسكي) البالغ من العمر سبع سنوات عندما ولد شقيقه (ديفيد)، وعندما كان في الشهر التاسع من عمره، عانى من رد فعل تحسسي شديد وظل في المستشفى لمدة أسبوع بعيدًا عن والديه، لطالما شعرت والدته دائمًا أن تلك الحادثة أثرت على علاقاته بالأشخاص الآخرين، لم يكن لديه أصدقاء خارج عائلته وبدا أكثر راحة في اللعب مع أطفال أصغر منه في تلك السن.. في السنة الثانية لـ(كازينسكي) في جامعة (هارفارد)، ازدادت مشاكله العاطفية سوءًا.

(كازينسكي) يتحول لمفجر الجامعات والطائرات

كضابط سابق في المخابرات العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، جمع أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد (هنري موراي) ملفًا شاملًا عن شخصية (أدولف هتلر)، وفي عام 1947 عاد إلى هارفرد بمنصب رئيس الباحثين.

في ذلك الوقت، كان أحد أكبر مشاريع وكالة المخابرات المركزية –بصرف النظر عن تقويض الأنظمة الشيوعية في جميع أنحاء العالم– مشروعًا داخليًا يُسمى MKUltra، وهو دراسة لكيفية التحكم في العقل، زعم البعض أن أبحاث (موراي) في جامعة هارفرد كانت جزءًا من المشروع.

كجزء من هذا البرنامج، تم تكليف (موراي) والعلماء الآخرين الذين تمولهم وكالة المخابرات المركزية –ظاهريًّا– باستكشاف وسائل صنع وكسر شخصية الفرد، وتطوير تقنيات لغسيل المخ والسيطرة على العقل بما في ذلك التعذيب والحرمان من النوم والعقاقير المخدرة، التي كانت تستخدم في كثير من الأحيان على الضحايا غير المدركين.

في سن السابعة عشر، اشترك (تيد كازينسكي) كموضوع اختبار في إحدى دراسات (موراي) حول آثار الإجهاد على النفس البشرية. كان (كازينسكي) يذهب إلى مختبر (موراي) لكتابة مقالات عن أعمق معتقداته وقيمه ومثله العليا، وسيناقش طلابًا آخرين بينما يجري مراقبة وظائفه الحيوية. كان (كازينسكي)، الذي كان موصولًا لأقطاب كهربائية ويواجه مرآة أحادية الاتجاه مع أضواء ساطعة مُوجَّهة إلى وجهه، يناقش طالبًا في القانون تم تكليفه بتخويفه، والسخرية والتقليل من شأن كل ما كان يحبه أو يعلي من شأنه.
يسجل (موراي) بيانات غضب الشخص وإحراجه، ثم يعرض الفيديو على موضوع تجربته ليبين لحظات الغضب القصوى على وجه الخصوص. وصف (كازينسكي) تلك المرحلة بأنها ”أسوأ تجربة في حياتي“، لكنه بقي مشاركًا في الدراسة لمدة ثلاث سنوات. كما أوضح لاحقًا: ”أردت أن أثبت أنه يمكنني تحملها، وأنه لا يمكن كسري“.

بعد التخرج، التحق تيد (كازينسكي) بجامعة (ميتشيغان) للحصول على درجة الماجستير ثم الدكتوراه في الرياضيات، ومن هنا بدأ بالانتفاض، حيث كره زملائه الطلاب ومعلميه.

في غرفة نومه، اعتقد أنه يسمع جيرانه يهمسون عنه، في إحدى المرات، وفي نوبة من الإحباط الجنسي، فكر أن الطريقة الوحيدة التي يمكن له أن يلمس امرأة هي أن يصبح واحدة، فقام بحجز موعد مع المركز الصحي في الحرم الجامعي لمناقشة عملية تغيير جنسه، لكن في غرفة الانتظار، غير رأيه.

غاضبًا ومحرجًا من نفسه، تحولت مشاعره إلى التفكير في قتل الطبيب النفسي الذي كان ينتظر رؤيته، وقد وجد أن هذه الفكرة جعلته يشعر بتحسن، فكتب لاحقا: ”مثل العنقاء، أنا أتطلع إلى أمل جديد مجيد. اعتقدت أنني أردت قتل ذلك الطبيب لأن المستقبل بدا لي فارغًا تمامًا، شعرت أنني لن أبالي إذا مُت. وقلت لنفسي لماذا لا أقتل الطبيب النفسي وأي شخص آخر أكرهه، فالكلمات التي تدور في ذهني لم تكن هي المهمة بل الطريقة التي جعلتني أشعر بها. ما كان جديدًا تمامًا هو أنني شعرت حقًا أنني أستطيع قتل شخص ما، فقد حررني اليأس الشديد لعدم اهتمامي بالموت. لم أعد أهتم بالعواقب وقلت لنفسي أنه يمكنني أن أفلت من حياتي البائسة وأفعل أشياء جريئة أو غير مسؤولة أو إجرامية“.
في النهاية قرر: ”سأقتل ولكني سأقتلك بحذر لكيلا اُكشف، فأستطيع أن اقتل من جديد“.

بعد الانتهاء من دراسات الدكتوراه، أصبح (تيد كازينسكي)، البالغ من العمر 25 عامًا، أصغر أستاذ للرياضيات في جامعة كاليفورنيا في (بيركلي)، لكن تقييمات عمله كأستاذ لم تكن بنفس الروعة، فهو لم يشرح الأمور جيدًا، وكان غير صبور مع المتعلمين البطيئين. في نهاية السنة الدراسية الثانية في عام 1969، ترك عمله فجأة.

في البرية:

أعرب (كازينسكي) لأسرته عن اعتقاده أن التقدم التكنولوجي سيكون ذا آثار كارثية على العالم في المستقبل، وعلى هذا النحو فلا يمكن أن يساعد في هذه العملية بعمله في الرياضيات. كانت عائلته تدعم بحذر وجهات نظره، وأُعجب شقيقه الأصغر بالتزامه بمبادئه. وافقه والداه ولو بشكل سطحي، لكن والدته كانت تخشى سرًا من أنه ليس صاحب موقف، بل كان ”يهرب من مجتمع لا يعرف كيف يرتبط به“.

بمساعدة شقيقه، بدأ (كازينسكي) يبحث عن منزل ريفي خاص به، وقد مكث مع والديه لقضاء فترة قصيرة بعد رفض طلبه امتلاك منزل في كندا، فتبع أخاه (ديفيد) إلى مونتانا، حيث أرادا شراء قطعة أرض معًا.
استقر الأخوان على أرض مساحتها 1.4 فدان خارج مدينة (لينكولن) بولاية (مونتانا)، على بعد ساعة أو نحو ذلك شرق مدينة (ميزولا)، وليست ببعيدة عن غابة (فلاتهيد) الوطنية، هناك قام (كازينسكي) ببناء مقصورة أو منزل من غرفة واحدة بمساحة 3*3.5 متر.

لا يحتوي المنزل على كهرباء ولا مياه، لكنه امتلك مكانًا للاستحمام في مقصورة خارجية. في البداية، خطط (ديفيد) لبناء مقصورة ثانية، لكن في غضون فترة قصيرة أدرك أنه لا يريد أن يعيش حياة مقيدة مع أخيه الأكبر الذي يكره الحضارة، فانتقل لشغل وظيفة مدرس في ولاية (آيوا) في عام 1973.
كانت عائلة (كازينسكي) تتوقع دائمًا، أو بالأحرى تأمل، في أن يغادر ابنهم المضطرب الغابة في نهاية المطاف ويعود إلى المجتمع، إلا أنه كان لا يزال يعيش في تلك المقصورة عندما تم القبض عليه.

لبضع سنوات، أمل (تيد كازينسكي) حقًا أن تُهدئ العزلة عقله القلق، فكرّس نفسه للقراءة وتعلم مهارات البقاء على قيد الحياة، والصيد، وتحديد النباتات الصالحة للأكل، وحتى تجربة تهجين أنواع جديدة من الجزر. لكن مع نهاية العقد، لم يستطع أن يجد العزاء في أي مكان.
عندما انتقل للمكان كان هناك ثلاثة أشخاص فقط يعيشون في الوادي بأكمله حول منزله، لكن بعد ذلك أقيمت منازل جديدة، وأصبحت سيارات الدفع الرباعي والدراجات النارية والسيارات الثلجية وغيرها من المركبات الترفيهية أكثر شيوعًا، ولكن الأسوأ في رأيه هو الطائرات والمروحيات.

الغرق في بحر الجنون:

إحدى الحقائق المثيرة للاهتمام حول العنف الصادر عن (كازينسكي) هي كيف أن تصرفاته هي نتاجات واضحة لغضبه المتزايد ورهابه، فعندما يزعجه شيء ما، يشعر بأن قلبه يكاد يتوقف عن النبض ويخشى أن تكون حالته الصحية في خطر. في عام 1991 استشار طبيبًا في (ميزولا) الذي قال له بأنه يتمتع بصحة جيدة ووصف له بعض الأدوية المضادة للقلق والنوم، غير مقتنع بكلام الطبيب، اشترى جهاز مراقبة ضغط الدم باهظ الثمن لتتبع علاماته الحيوية وأرسل للطبيب نتائجه كل ستة أشهر لمدة خمس سنوات.
يبدو أن (كازينسكي) كان على علم بنفسه بما فيه الكفاية ليدرك أن هناك شيئًا ما خاطئًا، إذ سعى ذات مرة إلى نيل علاج موجه للصحة العقلية، فتكلم عن مشاكله مع القلق، وقال إنه قام بجلسة واحدة مع طبيبة نفسية قبل أن يقرر أنه لا يستطيع تحمل رسومها ولا رحلة الذهاب والإياب 60 ميلا إلى مكتبها، فكل ما كان يملكه من وسائل النقل هو دراجة هوائية، لذا طلب مواصلة العلاج عن طريق المراسلة قبل إبلاغه بأن هذه ليست الطريقة السليمة التي يتم بها العلاج.

بعد ذلك، في جوان من عام 1979 –بعد أن أرسل بالفعل قنبلتين على مدار عام– توغل (كازينسكي) في أعماق الغابة القريبة من مقصورته، إذ كان يشعر بالراحة في معسكر للصيد بعيدًا عن الجنس البشري قدر استطاعته، لكن سماعه لصوت الطائرات الذي استمر لمدة ساعة تقريبًا، تبعها ما سماه دوي اختراق حاجز الصوت، جعل من (كازينسكي) غاضبًا جدًا ومكتئبًا بسبب كل ما تسبب في إيقاف الرحلة وعاد إلى مقصورته.

بدأ في محاولة لإطلاق النار على طائرات الهليكوبتر العابرة والطائرات ذات الطيران المنخفض ببندقية الصيد الخاصة به، لكنه لم ينجح أبدًا، ولم يساعده ذلك مطلقًا، فقد بقي غاضبًا جدًا من هذا الحال الذي استمر في الكتابة عنه في مذكراته لعدة أشهر، وكتب: ”ليس الضجيج في حد ذاته هو ما يزعجني، ولكن ما تدل عليه هذه الضوضاء، إنه صوت الأخطبوط، الأخطبوط الذي لن يسمح بوجود شيء خارج نطاق سيطرته“، بذلك مقت الغابة التي أحب ولذلك كتب: ”ما زلت أحبها.. افترض أنه بنفس الطريقة التي تحب بها الأم الطفل الذي أصيب بالشلل والتشويه.. إنه حب مليء بالحزن“.

قبل أن تصبح أخبار المُفجّر حديث البلاد، لاحظ سكان (لينكولن) في مونتانا شيئًا ما غير طبيعي، فغالبًا ما تم اقتحام المقصورات الترفيهية القريبة من مقصورة (كازينسكي)، كما أن المركبات الثلجية والدراجات النارية قد تعرضت للضرر أو التدمير، وتم سكب السكر في خزانات الغاز للمعدات الثقيلة التي تستخدم في عمليات قطع الأشجار والتعدين المحلية.
أدرك (كريس ويتس)، وهو أقرب جار لـ(كازينسكي)، بعد سنوات فقط أن جاره غير المؤذي على ما يبدو والذي اعتبره صديقًا له ربما أطلق النار على العديد من كلابه أو سممها.

بعد إلقاء القبض على (كازينسكي)، أدرك (ويتس) كذلك أن جزء كبير من المتفجرات التي استخدمها الرجل قد صنعت من معدات وأدوات سُرقت من الورشة الخاصة به ومن أكوام الخردة.
في البداية، ظل المُفجر على اتصال مع والديه وشقيقه بشكل شبه منتظم أثناء وجوده في المقصورة، ولكن بحلول أواخر سبعينيات القرن العشرين، تغير هذا أيضًا، فبدأ يتهم والديه بالإساءة العاطفية واللفظية، وأشار إلى أن تركيزهما على تعليمه هو السبب الأساسي لمشكلاته المستمرة.

ظل على اتصال مع (ديفيد) حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وأخبر أخاه أنه كان الشخص الوحيد الذي كان يحبه على الإطلاق. لكن عندما تزوج (ديفيد)، قام (كازينسكي) بقطع تواصله معه، قائلاً إنه لا يريد أي صلة بعائلته.
بيان مفجر الجامعات والطائرات:

في عام 1995، بعد وقت قصير من مقتل (جلبرت موراي)، تلقت صحيفة (نيويورك تايمز) و(واشنطن بوست) طروداً خاصة بها كانت تحتوي على نسخ من مخطوطة من 35000 كلمة، و78 صفحة، ومطبوعة على الآلة الكاتبة بعنوان المجتمع الصناعي ومستقبله

تضمنت الحزمة تعليمات من المفجر، كتب فيها أنه لو لم تنشر إحدى هذه الصحف بيانه، فإنه سيرسل قنبلة إلى مكان غير محدد بقصد القتل. فأوصى النائب العام ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي بنشره على أمل، إذا لم يكن لأي شيء آخر، أن شخصاً ما قد يتعرف على أسلوبه في الكتابة.
في البيان، تطرق (كازينسكي) لما يعتبره البنية الفوقية التكنوقراطية المدفوعة بالرأسمالية والبحث عن المعرفة والتفاؤل المضلل بشأن التقدم المادي، وطوال البيان أشار (كازينسكي) إلى نفسه بـ”نحن“، وتحدث نيابة عما سماه ”نادي الحرية“، والذي غالبًا ما اختصره بحرفيّ FC في رسائل قنابله.

وأشار إلى السيارة -ا-لتي كانت ذات يوم ترفًا وباتت الآن ضرورة– ليقول إن التقدم أدى إلى تآكل الحرية الشخصية وخلق معايير جديدة يتعين على الأفراد تبنيها من أجل البقاء في المجتمع، وقال إن التقدم في الهياكل السياسية والاقتصادية والإعلامية، من شأنه أن يدمر الفردية والاستقرار البيئي، كما هاجم اليسارية والدفع نحو الإصلاحات الاجتماعية.
وتساءل عن قدرة الأفراد ذوي النوايا الحسنة على مقاومة الآثار السلبية للتكنولوجيا، وبالمثل اتهم وسائل الإعلام بأنها باتت وسائل دعاية أعمت الناس عن حقيقة دوافعهم. وخلُص المفجر إلى أن الحل الوحيد لمثل هذا العالم الكئيب هو المقاومة العنيفة.

قبل نشر بيان المجتمع الصناعي ومستقبله، ذكرت وسائل الإعلام أن الـ(تايمز) و(ذا بوست) قد تلقيتا بيانًا من المفجر ضد التكنولوجيا الحديثة. في أواخر صيف عام 1995 في منزلهم في (شينيكتادي) بنيويورك، سألت (ليندا باتريك)، زوجة (ديفيد كازينسكي) زوجها قائلة: ”هل حدث لك وأن فكرت، حتى كاحتمال بعيد، أن يكون شقيقك هو المفجر؟“.

البحث عن المفجر: أكبر مطاردة في تاريخ مكتب التحقيقات الفيدرالي

فوجئ (ديفيد كازينسكي)، فزوجته لم تقابل أخاه الانطوائي حتى، فكيف تتهمه بالإرهاب؟ لكنها أوضحت أن التركيز على التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع هي نفس الأشياء التي كان شقيقه مهووسًا بها، وهي نفس المعتقدات التي سمعتها من (ديفيد) وأمه وهما يحاولان فهمها في اجتماعات عائلية لا تحصى.

علم (ديفيد) أن أخاه يعتنق هذه الأفكار وأنه مضطرب، لكنه لم يكن عنيفًا، ولا يمكن أن يكون المفجر. ومع ذلك، محاولًا تغيير الموضوع، وعد بقراءة البيان عند إصداره. بعد بضعة أيام وقراءته البيان، لم يكن الأخ الأصغر مقتنعًا بالفكرة، فأخوه لم يكن ذا صلة بالسياسة أبدًا، وعلى الرغم من حبه للطبيعة، لم يكن حقًا من أنصار البيئة. في نهاية قراءته الأولى، أول ما فكر به (ديفيد) هو أنه ”ربما كانت هناك فرصة واحدة في الألف أن (تيد) كتب هذا“.
لكن زوجته ذكرته أن نسبة واحد من ألف لا تزال نسبة كبيرة جدًا ليهملها المرء، فوافقها (ديفيد) على مضض. خلال الأشهر القليلة التالية، قام الزوجان بسبر محتويات البيان ومقارنته بالرسائل التي أرسلها الأخ الأكبر إلى شقيقه قبل انقطاعهما. أخيرا اعترف أنه كانت هناك فرصة 50-50 أن شقيقه هو المفجر، في تلك المرحلة، اتصل بمكتب التحقيقات الفيدرالي.

على الرغم من كونه التحقيق الأطول والأكثر تكلفة في تاريخ مكتب التحقيقات الفيدرالي، إلا أنه بحلول أوائل التسعينيات لم يكن مكتب التحقيقات الفيدرالي في هذه المرحلة قد اقترب قيد أنملة من القبض على (كازينسكي) أكثر مما كان عليه عندما بدأت التفجيرات في عام 1978.
لكن في عام 1987، قامت إحدى الشهود بإلقاء نظرة قصيرة على المفجر وهو يضع إحدى قنابله في ساحة ركن السيارات في مدينة (سولتليك)، وقدمت إلى مكتب التحقيقات وصفًا بالذي رأته. لسوء الحظ، كانت قد شاهدت (كازينسكي) عبر موقف للسيارات وكان يرتدي نظارة شمسية وسترة بقلنسوة، كما حلق لحيته لكنه أبقى الشارب.

كان (كازينسكي) دقيقًا في جهوده لتجنب القبض عليه، نادرا ما دخل الجموع دون تمويه، حتى أنه زرع أدلة زائفة –مثل شعر كان قد التقطه في محطة للحافلات– في شريط كهربائي بأحد قنابله، لكن في النهاية، ما كان سيوقع (كازينسكي) هو كبرياؤه.
يقدم متحف Newseum بواشنطن مجموعة من اللقطات من قضية (كازينسكي).

القبض على (تيد كازينسكي):

في 3 أبريل من عام 1996، كان (تيد كازينسكي) جالسًا في مقصورته وبقربه بندقية محشوة عندما ناداه صوتٌ من الخارج، أرادت مصلحة الغابات التحدث إليه بخصوص حدود ملكيته الخاصة، وهو موضوع كان (كازينسكي) متلهفًا لمناقشته بحنق، لكن عندما خرج من الباب، قام عميلان فيدراليان بالقبض عليه على الفور، فكانت عملية أسهل بكثير مما توقع الجميع.

بجانب سرير (كازينسكي)، تم ربط قنبلة حارقة بخيط مصممة لإشعال النار في مقصورته، مما سيؤدي إلى تدمير جميع دفاتره اليومية والأدلة الأخرى. كان يعتزم الإمساك ببندقيته والركض إذا تعرض لمثل هذا الموقف شمالًا عبر الغابة الكثيفة، واستخدام مؤن الطعام والذخيرة واللوازم الأخرى التي كان قد دفنها في أماكن للاختباء حتى الوصول إلى كندا.

على الرغم من أنها لم تكن جزءًا من خطة الهروب، إلا أن كمية الأدلة الهائلة لم تكن الشيء الوحيد الذي نجا من النيران، فتحت سريره كان هناك قنبلة أخرى جاهزة للتوصيل، والتي كان يمكن أن تنفجر في الحريق بكل سهولة.
إلى جانب هذه القنبلة، كانت هناك عدة كتب عن الأنثروبولوجيا والتاريخ والمعادن والكيمياء. عثر المحققون على جِرار مملوءة بمعدات صنع القنابل، وآلة كاتبة والنسخة الأصلية من بيان المجتمع الصناعي ومستقبله، كما عثروا على 30000 صفحة من المذكرات التي يعود تاريخها إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي مكتوبة باللغة الإنجليزية والإسبانية وأجزاء أخرى مشفرة.

أُعجب محللو التشفير بالتعقيد الهائل الذي استخدمه (كازينسكي)، وما زاد من صعوبة فك تشفيره كان استخدامه للأخطاء الإملائية المتعمّدة ونقص الفواصل العليا والاستخدام العشوائي للتباعد بين الكلمات.

كانت الشفرة معقدة للغاية لدرجة أن (كازينسكي) لم يستطع تذكرها بمفرده، إلا أن المحققين وجدوا المفتاح لفك التشفير إلى جانب كتاباته ودفاتره الأخرى، ونتيجة لذلك تمكنوا من الوصول إلى ما كان بمثابة اعتراف المفجر الذي غطى عقودًا.

محاكمة شائكة:

على الرغم من أن (كازينسكي) كان رهن الاحتجاز، وكان لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي أدلة كافية لدفع القضية إلى الأمام وتثبيت التهم، إلا أنهم لم يخططوا للصعوبات التي ستتعرض لها هذه المحاكمة، فقد أعد محامي دفاع (كازينسكي)، ضد رغبته، دفاعاً مقنعاً عن موكله وسيكون دليله الرئيسي هو مقصورة (كازينسكي) التي عاش ووجد فيها، حيث جادل بأنه لا يوجد شخص عاقل سوف يقضي 25 عامًا في فصول الشتاء القاسية في مونتانا في مثل هذا المنزل الصغير والبدائي طواعيًة.
لجعل حجتهم مقنعة لهيئة المحلفين، خطط الدفاع لنقل المقصورة إلى المحكمة ليتمكن المحلفون من السير فيها حتى يستطيعوا تقدير مدى سوء وفظاعة أسلوب حياة المفجر، ما كان يشكل للنيابة مشكلة، فهم كانوا يأملون في نيل عقوبة الإعدام، وهي استحالة إذا أعلن عن إن (كازينسكي) مجنون.

عاقل أم مصاب بالفصام؟

بدأت المحاكمة في 8 جانفي 1998، وبسبب غضبه من خطة الإقرار بالجنون، حاول (كازينسكي) طرد فريق دفاعه، وعلى الرغم من أن هذا يعني المخاطرة بعقوبة الإعدام، إلا أن ذلك كان أقل ما يهم (كازينسكي) مقابل الحفاظ على اسمه، فإذا وصفه المجتمع بالمجنون هذا يعني أنه يمكن تجاهل أفكاره وبيانه، لكن طالما أنه اعتبر عاقلًا رسميًا، فسيكون من الصعب رفض حججه، وهو هدف مهم جدًا بالنسبة له، لذا طلب أن يكون محاميًا عن نفسه، لكن طلبه قد رُفض.

 

في 16 جانفي، كتبت الدكتورة (سالي جونسون)، خبيرة علم النفس في النيابة العامة، تقريرها عن الحالة العقلية لـ(تيد كازينسكي) بعد التحدث معه لمدة 22 ساعة. على الرغم من أنها قررت أنه كان متماسكًا ومؤهلاً عقلياً للمثول أمام القضاء، فقد خلصت أيضًا إلى أن هوسه بإساءة معاملة والديه له وحنقه على التكنولوجيا كانت معتقدات واهمة تتفق مع أعراض مرض الفصام.

علاوة على ذلك، وبالنظر إلى أنه كان في مراحله المبكرة حتى منتصف العشرينيات عندما بدأت أوهامه، وهو نفس العمر الذي يبدأ فيه معظم مرضى الفصام يعانون من الأعراض، فبدا من المحتمل أن (كازينسكي) كان مصابًا بمرض عقلي عميق. وبذلك لم يتمكنوا من الحصول على عقوبة الإعدام، فعرضت الدولة على (كازينسكي) صفقة التماس في مقابل الإقرار بالذنب، فيتجنب عقوبة الإعدام وإعلان الجنون.

وافق (كازينسكي)، وفي 22 جانفي 1998 أقر بأنه مذنب بـ13 تهمة، وقد حكم عليه بثمانية أحكام بالسجن مدى الحياة دون إمكانية الإفراج المشروط.

على مدار الـ21 عامًا الماضية، جرى حبس (كازينسكي) في سجن ADX Florence في (فلورنسا) بـ(كولورادو)، وهو ينكب على الرد على مراسلات ثابتة من الفضوليين والمعجبين، وقد نشر حتى الآن كتابين من السجن بما في ذلك العبودية التكنولوجية عام 2010 بالاشتراك مع أستاذ من جامعة ميتشيغان – ديربورن.

على الرغم من أن (تيد كازينسكي) محاط بسلسلة جبال روكي الأخاذة، إلا أنه لم يرها أبدًا لأن نافذته إلى الطبيعة ليست إلا كوة صغيرة في زنزانته، وعلى ما يبدو فهو لا يمانع العزلة، ومن المفارقات أن منزله السابق بات مقصداً للكثير من الزوار.

تم بيع ”مقصورة المفجر“ المشهورة، المنزل الذي بناه للهروب من المجتمع، في مزاد عام 2006. اليوم، ستجده في متحف Newseum في واشنطن العاصمة، حيث يُعد واحدًا من أشهر ممتلكات معرض Inside Today’s FBI.

 

 

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل