ذكرى استشهاد ” الرايس حميدو ” … الأميرال الجزائري الذي أسست أمريكا سلاح «المارينز» لمحاربته

نور17 يونيو 2022آخر تحديث :
ذكرى استشهاد ” الرايس حميدو ” … الأميرال الجزائري الذي أسست أمريكا سلاح «المارينز» لمحاربته

في الفاصل المائي بين قارتي أفريقيا وأوروبا؛ كتب الأسطول البحري الجزائري فصولًا طويلة من الهيمنة على البحار امتدت لعقود طويلة؛ الأسطول القوي الذي لم تصمد أمامه سفن أوروبا الحربية والأمريكية التي كانت تجرُّ تباعًا إلى الموانئ الجزائرية.

تعاقب على قيادة ذلك الأسطول؛ العشرات من الرياس – كما يسمون في القاموس العسكري العثماني- ولعلَّ أشهرهم الإخوة بربروس، وصالح باي، والعلج علي، ومراد بيري رايس، وأخيرًا الرايس حميدو، الذي كان آخر أقوى الرياس الذين قادوا الأسطول الجزائري إلى المجد قبل أن ينهار في معركة «نافارين» البحرية سنة 1827، وتتعرض الجزائر إلى الغزو والاحتلال الفرنسي لأزيد من قرن. في هذا التقرير نستعرض سويًّا سيرة آخر قائد للبحرية الجزائرية فرض على أمريكا الدفع لعبور المتوسط.

الرايس حميدو من حرفة الخياطة إلى ركوب البحار
في الجزائر سنة 1770م، وتحديدًا في حي القصبة؛ ولد طفلٌ اسمه محمد بن علي؛ سيُلقب فيما بعد بـ«الرايس حميدو» من أسرة جزائرية بسيطة، لا يعرف منها سوى أبيه علي الذي كان يشتغل خياطًا. وكعادة غالبية الآباء الجزائريين في ذلك الوقت، كان الوالد علي يلتمس لابنه محمد مستقبلًا في الخياطة؛ فهيأه لذلك منذ سن العاشرة بإرساله إلى أشهر مفصلي البزَّات بالجزائر لتعلم الحرفة.

أحلام الطفل حميدو – وهو تدليل لاسم محمد- حسب المؤرخ الجزائري علي تابليت الذي كتب سيرة الرايس حميدو في كتاب «الرايس حميدو أميرال البحرية الجزائرية 1770-1815»؛ كانت أوسع من أن تُحصر في ورشة للخياطة، فكان يستغل فترة ذهابه لتعلم الخياطة ويهرب إلى ميناء الجزائر لمشاهدة السفن الراسية عليه؛ واستقبال البحارة الجزائريين والعثمانيين والسماع لقصصهم ومغامراتهم في البحار.

أعجب الطفل محمد علي بحياة البحر ومغامراته التي كان يسمعها من أفواه البحارة، فقرر أن يترك الخياطة ويشتغل بحارًا في سفينة أحد البحارة الجزائريين، وكان في البداية يقول إنَّ كل ما يريده من وراء صعود السفينة وركوبه البحر، مجرد تنشيط ركبتيه اللتين أصابهما الفشل بفعل وضعيتهما غير المريحة أثناء الخياطة، بحسب ما ذكره المؤرخ الجزائري علي تابليت.

في وقتٍ وجيز استطاع الرايس حميدو التدرب وإتقان فنون البحرية، ولفت أنظار البحارة ومن ورائهم قادة البحرية الجزائرية، واستطاع بدهائه وذكائه الحربي وقدرته العالية على التخطيط أن يستولي على إحدى سفن الأسطول البرتغالي التي أطلق عليها «البرتغالية»، ومن بعدها استولى على سفينة أمريكية أطلق عليها «الميريكانا»، واستطاع بعدها تكوين أسطوله البحري الخاص المكون من ثلاث سفن بحرية: سفينته الخاصة المسماة بـ«مسعودة» والسفينتين البرتغالية والأمريكية، كانتا محملتين بـ40 مدفعًا.

العصر الذهبي للبحرية الجزائرية: الجميع يخضع لمدفع حميدو
بينما كان نشاط الأسطول البحري الجزائري يتجه إلى الانكماش مطلع القرن السابع عشر؛ أعاد الرايس حميدو الانتعاش للبحرية الجزائرية من خلال انتصاراته المتتالية واستيلائه على عشرات السفن الأوروبية، حتى صار عهد الرايس حميدو عصرًا ذهبيًّا في تاريخ البحرية الجزائرية.

ذاع صيت الرايس حميدو، وما حققه من بطولات وإنجازات في أعالي البحار، ونذكر مثالًا معركته في سنة 1799م، التي التقى فيها مع فرقاطة كبيرة للبرتغاليين أكبر من سفينته، وقد تمكن منها بعد أن تلاحم مع بحارتها بالسيوف، ثم جرها إلى ميناء الجزائر، حيث استقبل وبحارته استقبال الأبطال، ليكرم من طرف الداي حسن باشا شخصيًّا (حاكم الجزائر آنذاك)، وتضاف غنيمته إلى الأسطول البحري الجزائري.

أحدث هذا الانتصار ضجة كبيرة، حتى إنه جرى الحديث عنه في الجزائر العاصمة، حيث كثرت العروض الجريئة على حميدو الذي استدعي من طرف الداي باشا حسن؛ الذي هنأه وأرسله بعدها الداي الباشا حسن في مهمة إلى مدينة وهران مع الفريق الذي يحمي المدينة من الحملات الإسبانية، ومن ثم ولَّاه باي وهران، محمد الكبير، على أسطول وهران البحري.

كادت مسيرة الرايس حميدو المرصعة بالانتصارات أن تذهب سدى؛ حين عصفت رياح عاتية بسفينة الداي الباشا حسن التي أهداها للرايس فحطمتها، فغضب عليه داي الجزائر، وطالبه بالمثول أمامه، لكن سرعان ما هدأ غضب الداي بعد أن علم بالحالة السيئة لمرفأ القلعة الذي شهد الحادثة؛ فأدرك فداحة الحادث وعفا عن الرايس حميدو.

في سنة 1797؛ كافأ الداي الرايس حميدو بإسناد قيادة سفينة «غراب» أضخم سفينة في الأسطول الجزائري آنذاك، إليه؛ والتي كان الرايس حميدو قد غنمها من بحارة جنوة. واستطاع الأدميرال الجزائري الاستيلاء بعدها على عشرات السفن خصوصًا سفن نابولي وجنوة، التي كان يبيع حمولتها في تونس ويرسل منتوجها إلى الجزائر. ولم تسلم حتى السفن اليونانية التي كانت تابعة للباب العالي بإسطنبول من قرصنة الرايس حميدو، الذي جعل كلَّ سفينة لا تذعن للجزائر، في مرمى نيران مدفعه.

ويذكر المؤرخ علي تابليت، أن أضخم سفينة قام الرايس حميدو بالاستيلاء عليها هي سفينة حربية برتغالية، مسلحة بـ44 بندقية، وأسر 282 من البحارة الأوروبيين الذين كانوا على متنها؛ وجرها الرايس حميدو إلى ميناء الجزائر. جدير بالذكر أن عدد البحارة في عهده قُدِّر بأكثر من 130 ألف بحار، وأن أشهر السفن الحربية الجزائرية وقتها: كانت «رعب البحار» و«مفتاح الجهاد» و«المحروسة».

أمريكا تدفع الضرائب وتؤسس المارينز لمحاربة الرايس حميدو

بعد حربٍ امتدت لأزيد من 300 سنة كانت آخر فصولها تحرير الجزائريين لمدينة وهران؛ وقعت الجزائر سنة 1791 معاهدة سلام مع إسبانيا والبرتغال؛ وأصبحت سفن البحارة الجزائريين تتجوَّل على طول المتوسط وعرضه بأريحية. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة الأمريكية دولة فتية لم يمر على تأسيسها سوى عقودٍ قليلة، وكانت سفنها بالمتوسط هدفًا للجهاد البحري الجزائري.

في كتابه «الجزائر وأوروبا» يذكر المؤرخ جون وولف أنَّ السفير الأمريكي في لندن، جون آدامز، اقترح على الحكومة الأمريكية شراء السلم مع الجزائر كما فعلت الدول الصغيرة الأخرى؛ أمَّا توماس جيفرسون الذي كان وزير الخارجية والسفير الأمريكي في باريس آنذاك، فقد حثَّ على إنشاء أسطول بحري أمريكي لفرض احترام الجزائر للعلم الأمريكي في المتوسط.

في سنة 1795؛ وبعد مفاوضات طويلة وقعت الولايات المتحدة الأمريكية معاهدة مع الجزائر، جرى من خلالها دفع أمريكا مبلغ 642 ألفًا و500 دولار بالإضافة إلى ضريبة سنوية تدفع للجزائر على شكل معدات بحرية.

ومع وصول توماس جيفرسون إلى سدة الحكم في أمريكا؛ بدأ في تنفيذ فكرته الأولى، وهي بناء أسطول أمريكي قوي يحمي به السفن التجارية الأمريكية بالمتوسط، يضمُّ فرقاطات كبيرة وسريعة الإبحار. كان فضل جيفرسون في إنشاء قوات البحرية الأمريكية المعروفة اليوم باسم «قوات المارينز» كبيرًا؛ بحيث يذكر السفير الأمريكي في لندن من خلال مراسلاته مع الرئيس الأمريكي، توماس جيفرسون، والمذكورة في كتاب «الجزائر وأوروبا» أنَّ هذا الأخير كان «أبا الأسطول البحري للولايات المتحدة».

وبعد معاهدة جانت التي وقعت في 24 ديسمبر 1814 بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والتي أنهت بموجبها الحرب القائمة بين البلدين منذ سنة 1812، استغلت أمريكا تلك المعاهدة بالتوجه إلى المتوسط لمحاربة الدول التي تُغِير على سفنها، فكانت الجزائر من بين الدول المستهدفة بالأسطول الأمريكي الجديد.

المعركة الأخيرة: رُيَّاس البحر يُدفنون في البحر!
في كتابه «حقائق الأخبار في دول البحار» يسرد المؤرخ إسماعيل سرهنك باشا، آخر معارك الرايس حميدو أو حمدون قوبودان كما يسميه البحارة الأتراك؛ فيذكر أنَّ الداي عمر باشا الذي حكم الجزائر في الفترة ما بين 11 أفريل1815 و8 سبتمبر 1817، كان قد وجَّه أوامر للرايس حميدو بالخروج بسفنه لاعتراض السفن الأمريكية بالمتوسط؛ وذلك ردًّا على رفض السلطات الأمريكية دفع ضرائب حماية سفنها بالبحر المتوسط، والتي كانت تدفعها للخزينة الجزائرية حسب الاتفاقية الشهيرة بين البلدين، والتي ذكرناها سابقًا.

بعد قرار امتناعها عن دفع الجزية للجزائر؛ أعزت أمريكا قيادة أسطولها للأدميرال البحري ديكاتور؛ الذي توجَّه بأسطول بحري من 10 سفن كبيرة إلى شرق المتوسط في شهر جوان 1815، ولم يتعرف الرايس حميدو إلى الأسطول الأمريكي إلَّا متأخرًا؛ إذ كان يظن في البداية أنه أسطول تابع للبحرية الإسبانية التي كانت في معاهدة سلام مع الجزائر.

قبل أن تندلع المعركة جمع الرايس حميدو بحارته ومقاتليه وخطب فيهم خطابًا تحفيزيًّا ختمه بوصيته الأخيرة لمساعده بالقول: «عندما أكون ميِّتًا، أصدر أوامر بإلقائي في البحر، لا أريد أن يحصل الكفار على جثتي».

تواجهت سفينة الرايس حميدو مع الأسطول الأمريكي، ورغم تفاوت القوة بين الطرفين، فإن المعركة كانت شرسة؛ وقضى فيها الرايس حميدو نحبه؛ وكما طلب، ألقيت جثته في البحر ليكون قبرًا له، بعد أن كان في حياته ميدانًا لبطولاته وشجاعته.

وقد وصف المؤرخ الفرنسي ألبير دوفال موت الرايس حميدو في كتابه «الرايس حميدو» قائلًا: «كانت النهاية شريفة يستحقها من كان في مثل شجاعته، ولقد لفظ أنفاسه الأخيرة وهو على كرسي القيادة، هادئًا ومقدامًا، تحت نيران أحد الأساطيل الأمريكية الذي باغته، فطوَّقه، وكانت مقاومة حميدو مشرفة على الرغم من عدم تكافؤ القوات، والتفوق الأمريكي الذي لم يترك له أي أمل في الحياة».

وبعد تلك الهزيمة التي منيت بها البحرية الجزائرية، فرض الأدميرال ديكاتور على الجزائر معاهدة جديدة؛ وصفها الباحث الدكتور توفيق دحماني في ورقته البحثية « إيالة الجزائر بين موارد البحر والضرائب» بأنها «مهينة»؛ إذ جرى من خلالها السماح للسفن الأمريكية بعبور المتوسط دون دفع أي ضرائب أو رسوم.

ويعدُّ الرايس حميدو من بين الشخصيات التاريخية المهمة التي يكن لها الجزائريون الاحترام والتقدير، رغم مرور قرنين من الزمن على وفاته؛ فصورته لا تزال حاضرةً بين الجزائريين، من خلال تمثال برونزي للفنان الجزائري رضا شيخ بليد، يزين وسط الجزائر العاصمة؛ كما أنَّ العديد من الأماكن في الجزائر تحمل اسمه، بالإضافة إلى فرقاطة عسكرية باسمه، و في كل عام تجري القوات البحرية الفرنسية والجزائرية بشكل مشترك، في غرب البحر الأبيض المتوسط، تمرينًا يسمى «الرايس حميدو»

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل